الشهد .. قصة لـــ سعيد عثمان

الشهد .. قصة لـــ سعيد عثمان الشهد .. قصة لـــ سعيد عثمان

غابت النوارسُ عن سمائِنا المظلمة منذُ زمن.. واختفت النجومُ خلف غياهِب سحبٍ رماديةٍ قاتمةٍ، ليس بينها وبيننا قرابةٌ ولا صِلة.. وقاربنا الخشبىّ تزجرُه الموجةُ تلو الموجة.. ترفعُه مكرها، فيعلو.. يتمايلُ يتراقصُ، ثم يهبطُ دفعةً واحدة. فيخُورُ كما الثورُ الذبيحُ يقاوم الغرق.. وخيالاتُ أشباحٍ نحيلة فوق سطحهِ تلتصق.. تقاومُ السقوطَ فى اللُّجَّةِ المعتمة، فيُقبرُ فى قاعِها الحلمُ والأمل.

فى المسافةِ ما بين أعلى قمةِ الموجة وقاعها، تغمرُنى المياهُ المالحة. تصفعنى.. تضربنى بعنفٍ وأنا أحاولُ الإمساكَ بشمعةِ الهلْبِ فى المقدمة. والقاربُ الخشبىّ المتهالك فى لجَّةِ البحرِ، قد أصابه الخوَرُ والوَهن.. يئنُّ ويصرخ.. يتوسلُ لنجدته.. وما من مجيبٍ سوى المزيد من ضحايا انتقام العاصفة.

يتمايلُ القاربُ فتتعلق بتلابيبنا المحن.. من كفوفها العريضة تبرز تلك المخالبُ المتربصة الصائدة.. فتعلَقُ فى أطرافِها فرائسُ فقيرةٌ معدمةٌ ليس لها فى الحياةِ من عونٍ ولا سَند.. تقذفُها إلى اليمِّ: يطويهم، يسلبهم، يحويهم.. يبتلعهم فى قسوةٍ دونما أسفٍ دونما ندم. تتصلَّبُ سواعدُنا تمسكُ بالألواحِ، بالنتوءاتِ، بالأشياءِ المتناثرة فى الهواء.. نتعلقُ بسرابِ حُلمِ الرغبةِ المهانة.. تشهقُ الأرواحُ تلتصقُ بأسقفِ الحلوقِ، فلا تنفلتُ من الجسد عند أول زَفْرةٍ وزفير.

لم نكن نملكُ سوى الدعاءِ أن يخففَ اللهُ من هذه الأمواج العتيِّةِ المتمردة.. بعد ساعاتٍ قلائل من هدوءِ بداياتِ رحلتنا الواعدة؛ تركنا خلفنا الأوطانَ عند الشاطئ الليبىّ مُتجهينَ إلى حيث الأراضى الواعدة: «إيطاليا بلد الثراء والعمل».. لكنَّ اليمَّ الخبيث يكاد يغتال فينا الحلمَ، ويقبُر الأمل.

«المالحُ يا ولدى فاجِرٌ فى خصومتهِ».

هكذا حذرنى جدى العجوز قبيل المغادرة.

كما جرذان سفح الجبل فى صعيدنا المقفر، انتهى أمرنا وحالنا. الموجُ قِطٌّ أعجمىّ شرِس، مُتصابٍ يطاردنا.. يعبثُ بأحلامِنا وقد خَبرَ الصيدَ وأتقنه.. وبريقُ عينيهِ يلمعُ بضوءٍ أصفرَ حاقدٍ، معلق بساريةٍ خشبيةٍ بلا هويةٍ لقاربٍ عليلٍ يتأرجحُ بين الفناءِ والعدم.. يصرخُ قاربُنا العتيقُ يطلبُ المدد.. يقذفُ قربانهُ الوثنىّ إلى «بوسيدون» العجوز، فما يصلنا منه سوى دفقاتٍ من مياهٍ مالحة.. تهجمُ كما التنين على فريستها وقتَ شهقة ارتدادِ الموجة نحو قعرها.

ما بين قمةٍ وقاعٍ: نفوسٌ مرتعشةٌ تتعلقُ بوهمِ الآمالِ الآثمة!

2

بين مخالبِ الفقرِ استقرت ظلائمُنا وما ظننا أنها ستهوِى بنا يومًا إلى العدم.. أكفُّ الشّرِ تنشرُ العتمةَ وتطفئُ فى نفوسِنا قناديلَ الحبِّ والأملِ. ضجَّتْ معايشُنا فما عادَ يكفينا حُنُوُّ نهرٍ وما عاد يدفئنا صهدُ شمسِ.. فسَدتْ ضراعتُنا، فما عادتْ تسعفنا دعواتُ شفعٍ ولا وِتر.. أظلمتِ الأرضُ وجدُبتِ الأنفس.. وطفق يحكمنا كلُّ غير ذى عون.

يمرق الحزنُ بين الدروبِ والطُرقاتِ يترك وراءَه ضلالَتهِ.. يميلُ على كلِّ بابٍ يزرعُ اليأسَ تارةً، وتارةً يبذرُ الفقرَ والعوز.. تنتهى جولتُه عند بابنا، حيث اعتاد أن يقيم، لكن غير ذى قِدمِ.. من خلف بابنا، دموعُ أمٍّ نحلَها الضَنُّ والعوز.. تشيّعُ ضَرعًا ما ضنَّ يومًا بكوبِ حليبٍ بعد ركعتىْ فجر.. ونظراتٌ مقهورةٌ معاتبةٌ فى ِ بهيمةٍ وحيدةٍ سحبها الغريبُ، فسارت خلفهُ دون مقاومة.. ونقودٌ طالتها رائحةُ العطَنِ بين أصابع تتعيَّشُ على اعتصارِ حاجة الفقير لمالٍ كيف يملكه.. من غريبٍ لغريبٍ.. بِيعت البهيمةُ، وابتعنا الوهمَ والأمل.

تقول زوجةُ العمِّ: «غدا يكبرُ (الأحمد).. يغدو غنيا ثريا قادرا مقتدرا.. يرسلُ المالَ: يسترُ البنتَ.. يشترى الأرضَ يعمرُ البيتَ.. ويشترى أيضًا بدل الضرعِ؛ ألفَ ألفِ بطنٍ وضرْعٍ».

من خلفِ بساتين الطفولةِ والبراءةِ أطلَّ وجهُ «شهد».. عروسُ صبايا النجعِ وزينته، أطلَّت بطلعتها ترقبُ الحدث.. تودِّعُ الأخَ الأصغر «أحمد» وتومئ لى ببريقِ ودٍّ وحبّ.. توصينى دونما كلمةٍ، تعدُنى دونما حرف.. بابتسامةٍ طفوليةٍ خجلى تهبُنى الوعدَ، وتبرمُ بيننا العقد: «أنا لك يا ابن العم.. سأرقبُ مَقدِمَ الربيعِ تفتُّحَ الورد.. وأنتظر موسم القطاف، وقت تحسن الحال فى الغد».

التفتُّ بجسدى الصعيدى الممشوق، أختلسُ النظرةَ وأهمسُ فى الأذن: «غدًا يصبحُ لنا طفلٌ جميلٌ اسمهُ الأحمد».

تحمرُّ الخدودُ.. وتتوارى من خجلها «الشهد».

خلف حزمة الحطب؛ ترقُبنى زوجةُ العمّ.. تتظاهرُ بالغفلةِ تتجاهلُ عن طوع وعمد.. تفوحُ رائحةُ الخبزِ الناضجِ فى الفُرن.. تُخرجهُ وهى تبتسم.. لسانُ حالها يقول: «ابنَ عمٍّ وابنةَ عمّ.. خطيبان منذُ الصِغر».

المصرى اليوم