أخبار عاجلة

الديمقراطية..دورها فى حفظ السلام العالمى وشروط تحققها

لم تتحقق الديمقراطية حتى الآن فى بلادنا بالقدر الصحيح.. لا بصيغة البرلمانية ولا بغيرها من النماذج القريبة لها.. وهى الحكومات التى فشلت فى أداء وظيفتها بصورة مرضية.. وإن كانت الديمقراطية هى الإعلان والإعلام على رؤوس كل الحكومات فى كل العصور.. الانقلابات التى حدثت ومازالت تحدث.. منتجة المزيد من الديكتاتورية والاستبداد دلت بوضوح على ذلك.

كثيرون أرجعوا فشل الديمقراطية فى المنطقة العربية إلى أسباب متنوعة تفتقد فى حقيقة الأمر إلى الانسجام مع بعضها البعض.. أحد التفسيرات المتداولة بقوة فى الغرب هو أن الديمقراطية غرسة بطيئة النمو.. آجلة الثمار.. تطورت فى الغرب بصفة تدريجية عبر قرون عديدة.. وفى ظل مناخ ملائم توفر لها.. فيما يرون أنه ليس من المتوقع حدوث مثل ذلك فى الشرق.

وفى الشرق نفسه سنجد أن التفسير الأكثر شيوعا يضع مسؤولية الفشل على عاتق العوامل الخارجية كمعوقات كبرى لعدم ازدهار الديمقراطية (الاحتلال الأجنبى الطويل وضعف استقلال القرار الوطنى بعده).. وقد يكون هذا السبب حقيقياً بدرجة كبيرة.

ثمة تفسير آخر يسود كلاً من الغرب والشرق على السواء، يذهب إلى أن الشرق عاجز عن تحقيق الديمقراطية بسبب تفشى الطبيعة الفردية المفرطة بين شعوبه للوصول إلى درجة مطلوبة وضرورية من الاجتماع المشترك لنجاح فكرة الديمقراطية.. وهى الفكرة التى ينبغى أن تكون جماعية تعاونية أو لا تكون.

وهذا صحيح، فهناك ولاء عميق مازال يسكن نفوس الناس لدينا باتجاه الكيانات الاجتماعية الصغيرة مثل العائلة (الريف المصرى نموذجا) والقبيلة أو الطائفة. والناس غير قادرين، فيما يبدو، على تجاوز تلك الكيانات الصغيرة والانتقال والتعاطف فى الولاء مع كيانات أكبر بما يتطلبه هذا الانتقال من التعاون وإنتاج جهد ملائم مصحوب بشعور بالمسؤولية لإخضاع النزعات الفردية لصالح هدف عام مشترك يتطلب حدوثه توافر الإرادة المشتركة الهادفة إلى الصالح العام.. على الرغم من أن الخلفية الحضارية- فكراً ونصوصاً- للمجتمعات العربية فى أغلبها تحض وتحرض على الفعل الجماعى.. لا يتوقع أكثر المتفائلين لمستقبل الديمقراطية فى الشرق أن تنتعش بصورة كافية فى الوقت الحاضر لأن الأسس الاقتصادية والاجتماعية التى تتطلبها الديمقراطية لم تتوفر بعد.

مستويات التنمية وتوزيع الثروة والتصنيع ودرجة التعليم وغياب ثقافة الفعل الجماعى المشترك مازالت دون الحد المطلوب توافره لتحقيق الديمقراطية.. وهو ما يدعو للأسف الشديد.. خاصة مع التحولات النوعية الكبيرة التى حدثت منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة وحتى ظهور ما عرف بالربيع العربى.

ومن الضرورى طرح فرضية أساسية بوضوح ومكاشفة كاملة.. وهى لكى تتطور المؤسسات الديمقراطية- ثقافة ومؤسسات- لابد من توفر شرطين ضروريين: انتشار ثقافة (تكافل) اجتماعى قوى.. وأن يحتوى المجتمع على تنوع كاف لإحداث تفاهم وتفاعل بين مكوناته.

ففى غياب التكافل والتعاون (المجتمع القوى) تقع المجتمعات تحت تهديد الانحلال والتفكك، ويبرز اتجاه قوى لظهور حكومة مستبدة.

وعلى الجانب الآخر فما لم يتواجد تنوع وتفاعل وتفاهم باتجاه تقابل الأفكار والمصالح لمختلف المجموعات الفكرية والأيديولوجية فلن تكون هناك رقابة فعالة على سلطة (الحكومة/ الدولة) التى ستتمادى فى استبدادها وطغيانها كنتيجة طبيعية لغياب الرقابة والمساءلة، وكنتيجة أيضا لتشرذم المجتمع.

قيل كثيرا إن الديمقراطية هى ابنة الرخاء.. وهذا صحيح بدرجة كبيرة.. ومن المؤكد أن تطور الديمقراطية ارتبط عضويا وثقافيا بشكل واضح بانتشار حرية السوق وتحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، ويمكن استنتاج علاقة ترابطية واضحة بين ارتفاع متوسط الدخل الفردى ونجاح العملية الديمقراطية.

فعندما يحقق المواطنون إشباع حاجاتهم الضرورية يستطيعون حينئذ أن يجدوا الوقت والطاقة للمشاركة بفاعلية وقدرة فى العملية السياسية.

فإذا لم يحدث ذلك فالناس وهم مضطرون للبحث عن تحقيق حاجاتهم اليومية الأساسية بشكل كاف سيكونون، وباستمرار، فريسة للشعارات التى تعد بمساعدتهم وتحسين أحوالهم.. والشعارات فى مثل هذا المناخ يكون لها تأثير كبير على توجيه الرأى العام.. وعادة ما تكون هذه الشعارات فارغة المضمون.

ويمكن دراسة تأثير الجانب الاقتصادى فى العملية السياسية/ الديمقراطية من ثلاثة مداخل أساسية: الناتج القومى.. توزيع الثروة والدخل.. الهياكل الإدارية والمهنية.

والناتج القومى الإجمالى ليس هو المعيار الوحيد، إذ إن توزيع هذا الناتج وفق مقتضيات العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية لا يقل أهمية فى هذا المجال. فمازالت الثروة تمثل عنصرا ركينا من عناصر القوة.. وتركيز الثروة فى أيد قليلة يعنى أن مجموعة صغيرة فقط ستكون قادرة على المشاركة السياسية وما يترتب على ذلك من القدرة على المشاركة فى السلطة وحيازة القوة.

فى حين أن غالبية الناس ممن يفتقرون إلى الكفاية الاقتصادية يفتقرون للظروف والمواقف المناسبة لممارسة حقوقهم السياسية.

وهذه المسألة قديمة قدم المجتمعات الإنسانية.. أفلاطون الذى نشر فكرته فى (جمهوريته المثالية) قال صراحة: لا يجوز لثروة أغنى الناس أن تتجاوز أربعة أمثال ثروة أفقرهم.

سنلاحظ أن قيام البرلمانات وقيام الحكومة الديمقراطية نشأ على أكتاف الطبقة الوسطى.. وليست مصادفة أن أكثر الديمقراطيات الخالصة (سويسرا والبلدان الإسكندنافية) تتمتع بأعلى قدر من المساواة فى توزيع الثروة.

مثل هذا العامل المهم له حضور قوى فى الثقافة الإسلامية، حيث الفكرة التى تنص على عدم تركز الثروة بين أياد قليلة.. وحيث فكرة الزكاة (نسبة مئوية من الثروة تخرج للمجتمع كل عام).. وحيث الحض الدائم على إنفاق المال فى وجوه المصلحة العامة فى جانبيها الاجتماعى والتنموى.

العامل الاقتصادى المهم الآخر، والذى يتطلب أخذه فى الاعتبار، هو الهيكل الإدارى والمهنى. ستخبرنا التجربة الإنسانية عبر التاريخ بأن الديمقراطية تزدهر بدرجة كبيرة عندما تساهم نسبة مرتفعة من السكان فى الصناعة والتجارة وباقى الأنشطة المهنية، عكس النشاط المرتبط بالزراعة. ويظهر أن هذا التعميم يمكن أن يكون صحيحا بدرجة ما.

فالتصنيع وتطور التجارة والخدمات المدنية والمهنية تؤثر فى الحياة السياسية بطرق متنوعة، سواء من حيث إنها، مجتمعة، تساهم بقوة فى زيادة الإنتاج القومى العام أو من حيث ظهور (المجموعات) الأخرى التى تمنح الديمقراطية مفاصل متعددة، وتظهر مصالح جديدة.. تبعاً لذلك.. وتظهر معها بطبيعة الحال نماذج فكرية جديدة.. سيظل القول بأن كفاح الطبقة المتوسطة للمشاركة فى السلطة هو المصدر التاريخى لأغلب الديمقراطيات الحديثة إن لم يكن جميعها قولا صحيحا بامتياز.

الأقليات قد تضيف عقبة- لا أراها كبيرة- للعقبات التى تواجه بناء ديمقراطية كاملة فى الشرق.. وازدهار حقوق الأقليات ارتبط فى تاريخية الحضارة العربية/ الإسلامية بازدهار الثقافة الفكرية والدينية لهذه الحضارة على عكس ما يتصور كثيرون.. ومن الجوانب الإيجابية فى ذلك أن الدين فى المجتمعات العربية مازال حتى الآن يشكل القوة الاجتماعية الأعظم والعامل الأكبر لإطلاق قوى التغيير الاجتماعى.

قد يختلف الأمر تاريخيا فى الغرب كون الحرية السياسية كحقيقة فى العالم الغربى هى بدرجة كبيرة حصيلة لصراع المذاهب الدينية من أجل البقاء والانتشار.. والصراع الدينى والإصلاح الدينى الذى نشأ فيما بعد يرتبط ارتباطا واضحا.. الكنيسة الكاثوليكية الشمولية فى القرون الوسطى لم تكن لتفسح الطريق أمام فكرة (الدولة الحديثة) لولا هذا الصراع الذى اتسم بعنف شديد فى كثير من مراحله.. وهو ما يفسر كثيرا من المواقف التى لا تخلو من تناقض حضارى وإنسانى فى الحديث حول الدين ودوره فى المجتمعات الغربية.

ترتبط الديمقراطية فى تطورها وتعثرها بانتشار التعليم.. ففى الغرب أخذت الديمقراطية فى تثبيت وجودها لأسباب رئيسية، جمعت بين شرطين مهمين: الثقافة العالية للطبقة الحاكمة من جهة، وبين الناخبين المتعلمين الذين هيأوا مجتمعاتهم للتحول الديمقراطى.

وسنلاحظ أن التوسع فى التعليم فى التجربة الغربية حافظ على خطواته المتوازية مع توسيع دائرة الناخبين. (فى إنجلترا صدر قانون التعليم عام 1870بعد وثيقة الإصلاح لعام 1867).

كلا الشرطين غاب فى المجتمعات العربية التى تبنت المؤسسات البرلمانية/ الديمقراطية مبكرا جدا وفى غياب كل من طبقة حاكمة (مثقفة) وجمهور (متعلم).. فحدث تشوه شديد فى الوعى والتطبيق.

سنلاحظ أن مستوى الوعى السياسى لعامة الناس أعلى بكثير مما يتوقع منهم فعليا- والوعى السياسى يختلف بالطبع عن الفعل السياسى- ويعود ذلك فى حقيقة الأمر إلى وسائل الإعلام.. والتى تقوم بدور خطير فى الاتجاه الذى يحدده من فى السلطة، وأيضا من يملكون النفوذ والقوة.. وهو ما يجعل هذا الوعى منعدم التأثير.. وسلبيا فى كثير من الأحيان.

أحد جوانب الخلل فى المجتمعات العربية هو ضعف قدرة الناس على المشاركة فى فعل جماعى أو العمل المشترك على مستوى المحليات ومجالس المدن. فحيثما تكون الحاجة الاجتماعية لمحطة كهرباء مثلا أو مدرسة أو ساحة كرة قدم أو جمعية تعاونية سنجد العيون مباشرة تتجه نحو (الحكومة المركزية).. الضعف فى قدرة الناس هنا ارتبط عمليا أيضا بما يمكن تسميته (ثقافة الخوف) التى تراكمت لدى الناس من ملاحقة (الحكومات- أمنيا) لمثل هذه الأعمال.. سنجد أنفسنا هنا أمام (دائرة خبيثة).. تبدأ بضعف أو غياب ثقافة العمل الجماعى وتنتهى بالخوف والملاحقة من الدولة التى نادرا ما تسمح باتساع الأعمال ذات الطابع المجتمعى/ الجماعى فى غيابها.. مدفوعة بذلك بالحرص على اتساع محيط الهيمنة على الشأن العام.. التاريخ الحديث عندنا ملىء بدور (الحكومة) فى القيام بمثل هذه الهيمنة.. ولمحض أسباب سياسية قادمة من فكرة البقاء الطويل فى السلطة إن لم يكن البقاء الأبدى.

وعليه فيجب أن يكون مفهوماً بشكل واضح أن مجتمعاً يفتقر إلى الكثير من أعمال المشاركة المجتمعية وفى نفس الوقت تقوم السلطات بدور ضئيل بالخدمات.. بالكاد ما يخدم مصلحتها فى طول البقاء بالسلطة.. هذا المجتمع ليس هو ذاك المجتمع القادر على تنمية وازدهار فكرة الديمقراطية..

وعلى نحو مماثل سيكون حكماً متعجلاً القول بأن الناس قاصرون فطرياً عن العمل الجماعى أو القول بافتقارهم المبادرة.. فازدهار الحضارة الإسلامية كان محوراً لنشاط مكثف نتج عن أعمال المشاركة والمشروعات المشتركة.. وإذ نذكر ذلك سنجد أنفسنا أمام فعل حضارى من أرقى وأروع ما يكون عنوانه (الوقف الخيرى).. الذى رعى التعليم والصحة وتعبيد الطرق وكثيرا من أفعال (الخير العام).. التى كما ذكرنا أولا ركن ركين فى الثقافة الحضارية للمنطقة العربية.. كانت الحكومات المستبدة فى كل الأوقات حريصة على حصاره وتضييق دروبه إلا بالقدر الذى تسمح به.. وهو القدر اللازم لممارسة المزيد من الاستبداد.

تراجع الحضارة الإسلامية بعد الغزوات الصليبية وهجوم المغول يشير- تاريخيا- إلى أنه قضى على كل المبادرات الفردية وعلى المشاركة الجماعية، إذ أصبحت المبادرة والمشاركة مستحيلة فى ظل حكومات التسلط والابتزاز التى اتخذت من هذه الغزوات ومخاطرها ذريعة كبرى لوقف نشاط المجتمع مستقلا عن الدولة.. وقد تمدد ذلك طويلا بطول التاريخ الحديث للمنطقة العربية.

مازالت الأرضية الاقتصادية والاجتماعية غير صلبة على نحو كاف لتحقيق الديمقراطية السياسية المنشودة.. وهذا الاستنتاج من الحقائق التى يجب مواجهتها.. ومواجهتها بقوة كافية.

ما هو مطلوب ليس فقط إصلاحات بنيوية/ دستورية أو إدارية رغم الأهمية القصوى لذلك.. وليس فقط تغيير آلية الحكومة أو الإدارة.. بل وليس فقط تكييف البناء السياسى العتيق وتوجيهه نحو تحقيق (توازن قوى) جديد يعكس تغير العلاقات بين مختلف الطبقات الاجتماعية.. المطلوب أولا هو إحداث تحول اقتصادى واجتماعى ضخم باتجاه تقوية (المجتمع) وجعله قادرا على مواجهة الدولة الحديثة بأذرعها الأخطبوطية.. مثل هذا التطور ضرورى للغاية إن لم يكن حتميا كشرط لبناء ديمقراطية أصيلة فى المنطقة.

المهمة فى المقام الأول هى مهمة الناس أنفسهم ويمكن أن تكون للمساعدة الخارجية أهمية، لكنها يجب أن تكون غير مباشرة ومحدودة فى حدود ضرورية.

استبداد الحكومات وغياب الديمقراطية سينتجان مزيدا من البطالة والفقر والاضطراب فى مناخ من الأمن الإقليمى هو فى الوقت الحاضر مزعزع بالأساس.. وسيلقى بظلاله على مشكلات أخرى قائمة منذ وقت طويل (الصراع العربى- الإسرائيلى)، كل ذلك سيؤدى فى النهاية إلى مزيد من الصراع وفقدان الأمن والسلام الدولى.

النظم الديكتاتورية تكون غالبا أشد تأثيرا فى صناعة نماذج شبيهة بها فى المجتمع فتنتج اتجاهات متطرفة يتم توجيهها فى وقت لاحق وأحيانا من قبل ذات الأنظمة لاقتراف أعمال من شانها تهديد السلام الدولى.

الخطأ التاريخى، الذى اقترفه الغرب فى دعمه للأنظمة الاستبدادية فى المنطقة العربية طوال العقود الماضية، يجب أن يتوقف.. وقد توصل كثير من قادة الرأى والسياسة فى الغرب إلى أن القضاء على العنف والإرهاب يتم عن طريق تشجيع الديمقراطية فى الدول الواقعة تحت وطأة الاستبداد.. فالمدى الزمنى الطويل لانتشار الأفكار المتشددة فى مقابل تغييب متعمد للأفكار المعتدلة حرم المجتمعات العربية من الأرضية الصلبة للديمقراطية، وذلك بغياب مؤسسات المجتمع المدنى والإعلام الحر والحريات العامة، وأهمها حرية تكوين الأحزاب والجمعيات وحرية التعبير والاجتماع والتظاهر وحق التنظيم.

الديمقراطية هى مشروع ممارسة قبل كل شىء يتعلم منها أصحابها طرق التعامل مع مشكلاتهم. الديمقراطية وسيلة آلية لإنضاج الوعى بها من خلال التجربة والخطأ.. فليس بالتثقيف الديمقراطى فقط يتحقق الانتقال إلى الديمقراطية، وإنما يتطلب- إلى جانب الثقافة الديمقراطية- مؤسسات وبرامج وسياسات وممارسة مستمرة ومتواصلة.

إن الديمقراطية، التى تنتج اتجاهاً واحداً يفرض رؤيته وموقفه وسلطته على المجتمع ويحتكر الدولة، تفقد مسمى الديمقراطية التى نشأت فى التجربة الإنسانية بالأساس لتحقيق التوازن داخل المجتمع والدولة عن طريق تقسيم السلطة على أسس متكافئة وعادلة.

SputnikNews