شبكة عيون الإخبارية

التحول المعرفي في قطر.. صياغة لنموذج اقتصادي متنوع ومستدام

"النشرة الاقتصادية لوكالة الأنباء القطرية (قنا) ضمن ملف النشرة الاقتصادية لوكالات الأنباء العربية (فانا)" تسير دولة قطر بخطى حثيثة نحو ترسيخ مكانتها مركزًا إقليميًا رائدًا في مجال المعرفة، مستندة إلى رؤيتها الوطنية 2030، التي تشكل الإطار الشامل لتحولات الدولة في مختلف المجالات.

ويأتي التحول المعرفي القائم على الانتقال من اقتصاد يعتمد على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار والتكنولوجيا، كأحد المحاور الجوهرية لهذه الرؤية. ويعد الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتطوير الكفاءات الوطنية، واستقطاب التكنولوجيا المتقدمة، ودعم الشركات الناشئة، من أبرز ركائز هذا التحول الذي يتردد صداه بشكل لافت في عددٍ من التقارير والمؤشرات الدولية، ومنها تقرير الأمم المتحدة للحكومة الرقمية (EGDI) لعام 2024، الذي أشار إلى أن قطر حققت قفزة كبيرة، بتقدمها في مؤشر تطور الإلكترونية، من المرتبة 78 إلى المرتبة 53 عالميًا بين 193 دولة. كما احتلت المرتبة الخامسة عالميًا في العام نفسه فيما يتعلق بمؤشر البنية التحتية للاتصالات (TII)، وهو مكون رئيس في مؤشر تطور الحكومة الإلكترونية، مما يعكس حجم الجهود المؤسسية المبذولة لتسريع وتيرة التحول الرقمي، وذلك بالتوازي مع نسجها شراكات إستراتيجية مع كبريات الشركات العالمية في مجال التكنولوجيا، مثل: "مايكروسوفت"، و"جوجل"، و"أي بي إم" وغيرها؛ لتعزيز نقل المعرفة وتوطين التقنيات الحديثة، وتنفيذ مشاريع ترتبط بالخدمات السحابية، والأمن السيبراني، والتعلم الآلي، وغيرها من المجالات الحيوية.

وإذا كانت رحلة التحول الرقمي في قطر قد بدأت في عام 2003 مع إطلاق مشروع وبوابة الحكومة الإلكترونية، وتعززت أكثر في عام 2014، مع تقديم إستراتيجية حكومة قطر الرقمية 2020 خريطة طريق واضحة للنهوض بالمستقبل، فإن من أبرز موجهات هذا التحول تدشين "الأجندة الرقمية لدولة قطر 2030" كخريطة طريق لتحول رقمي شامل تحدد أولويات الدولة في هذا المسار عبر تسريع عملية التحول الرقمي ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال توظيف أدوات التكنولوجيا الحديثة. وتقوم هذه الأجندة على ست ركائز أساسية: تشمل البنية التحتية الرقمية، والحكومة الرقمية، والتكنولوجيا الرقمية، والابتكار الرقمي، والاقتصاد الرقمي، والمجتمع الرقمي، وتشتمل على 23 مبادرة إستراتيجية، تُنفّذ وفقًا لتسلسل زمني يضمن السير نحو تحقيق الأهداف المنشودة، وهو ما يجعلها مظلة شاملة لجميع جهود الدولة في هذا المجال، وتستهدف في الآن نفسه تسريع مساهمة القطاع الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي، ليصل إلى 3.2 مليارات دولار سنويًا بحلول عام 2030، أي ما يعادل نحو 1.3 % من الناتج المحلي، مقارنة بـ1 % حاليًا.

كما أن ما يميز هذا التحول في قطر هو تكامله مع إستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة (2024 - 2030)، التي تبنت صراحة مستهدفات ترتبط بالتحول الرقمي، مثل: الوصول إلى نسبة أتمتة تبلغ 90 % من الخدمات الحكومية (حوالي 1500 خدمة حكومية) بحلول عام 2030، وتحقيق مراكز متقدمة في مؤشرات الحوكمة الرشيدة والخدمات الحكومية الذكية، بما ينعكس مباشرة على كفاءة الأداء الحكومي وشفافيته، إضافة إلى إنشاء لجنة الذكاء الاصطناعي بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (10) لسنة 2021، لتكون المرجعية العليا في رسم السياسات الوطنية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وتنفيذ ما ورد في الإستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي التي أطلقت عام 2019. وتعد البنية التحتية الرقمية المتطورة من أبرز مكامن القوة التي تنطلق منها قطر في هذا المسار، حيث تحتل الدولة المرتبة الأولى عالميًا في سرعة الإنترنت عبر الهاتف المحمول، فضلًا عن توفر خدمات الجيل الخامس والألياف الضوئية بنسبة تغطية تتجاوز 99% من السكان، وفقًا لمؤشر "سبيد تيست - Speedtest"العالمي التابع لشركة "أوكلا - Ookla" لشهر أبريل 2025.

وقد أرسى هذا الاستثمار المبكر والمكثّف في البنية التحتية الرقمية الأساس الضروري؛ لتطوير الخدمات الرقمية، وتعزيز استخدام التقنيات المتقدمة مثل: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة. وإلى جانب الاستثمار في البنية التحتية، تحرص قطر على بناء القدرات البشرية وتعزيز المهارات الرقمية لدى المواطنين؛ إذ تهدف الأجندة الرقمية إلى توفير ما يقرب من 26 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030، في مجالات ترتبط بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إضافة إلى رفع نسبة الكفاءات القطرية العاملة في هذا القطاع إلى 10%، وهو ما يعكس إيمان الدولة بأن الإنسان هو محور التحول الرقمي وأداته في آن معًا.

وتدرك قطر أن نجاح التحول المعرفي لا يتوقف على البنية التحتية أو التكنولوجيا فحسب، بل يتطلب أيضًا وجود تشريعات مرنة وآمنة تواكب سرعة التحولات وتضمن الاستخدام المسؤول للتقنيات الحديثة وفي هذا الإطار، تبنت الدولة سياسات واضحة لحوكمة البيانات، وحماية الخصوصية، ومكافحة الجرائم الإلكترونية، بما يضمن بيئة رقمية آمنة وموثوقة.

وحول هذا الموضوع، أكَّد المدير العام المكلف لغرفة تجارة وصناعة قطر علي بوشرباك المنصوري، في تصريح لوكالة الأنباء القطرية، أهمية النظر إلى التحول الرقمي باعتباره أحد المحركات الرئيسة للنمو والتنويع الاقتصادي، مبرزًا في هذا الصدد عمل غرفة قطر على طرح مبادرات مختلفة في هذا الإطار، مثل: تطوير الإستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، وتوفير برامج تدريب موجهة لرواد الأعمال حول الذكاء الاصطناعي، ودعم ريادة الأعمال التكنولوجية، وتحسين البنية التحتية الرقمية، وتوفير حاضنات أعمال ومسرعات تقنية تركز على الذكاء الاصطناعي؛ لتعزيز فرص الشركات الصغيرة في هذا المجال.

وأشار المنصوري إلى أن القطاع الخاص، وبوجه خاص الشركات الصغيرة والمتوسطة، بحاجة إلى مزيد من الدعم لمواكبة التطورات المتسارعة في مجالات التكنولوجيا وتحقيق الاستفادة الفعلية من تقنيات الذكاء الاصطناعي، ومواجهة ارتفاع تكاليف الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك شراء البرمجيات المتقدمة وصيانتها وتحديثها بشكل مستمر، وتوفير الكفاءات المتخصصة في هذا المجال، لافتًا إلى أن ضعف الوعي المعرفي بفرص وفوائد الذكاء الاصطناعي، يسهم في تردد بعض الشركات في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي أو استثمار الموارد فيها.

وبخصوص ما إذا كانت السياسات التنظيمية والتشريعية الحالية مواكبة لوتيرة الابتكار في الذكاء الاصطناعي ومدى الحاجة لتحديث تشريعي عاجل، لفت المدير العام المكلَّف لغرفة قطر إلى أن العالم يشهد تسارعًا غير مسبوق في نمو وتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي ودخولها في مجالات متعددة، وأن ثمة حاجة ماسة لتحديث القوانين والتشريعات لمواكبة سرعة التطور والنمو في الابتكار والذكاء الاصطناعي، وصياغة تشريعات وقوانين عصرية تواكب الطبيعة المعقدة للذكاء الاصطناعي.

كما نوَّه إلى أهمية تحديث الإطار التشريعي والتنظيمي، بحيث يراعي المزايا الفريدة التي توفرها تقنيات الذكاء الاصطناعي، بما يعزز الابتكار والتنافسية، ويضمن الشفافية، وحماية الحقوق الفردية والقيم المجتمعية، مع مراعاة الأبعاد الأخلاقية والاقتصادية لهذه التكنولوجيا الحديثة. وللتحول المعرفي في قطر بعد إضافي من خلال الدعم المؤسسي الكبير الموجه للابتكار، حيث تعمل الدولة على توفير بيئة محفزة لنمو الشركات الناشئة، ودعم البحوث التطبيقية والتطوير التكنولوجي عبر مؤسسات مثل: واحة قطر للعلوم والتكنولوجيا، وجامعة حمد بن خليفة، ومراكز الذكاء الاصطناعي التي باتت تلعب دورًا متزايدًا في تحليل البيانات وصنع السياسات المبنية على المعرفة.

وقد بدأت آثار هذا التوجه تظهر بوضوح في تركيبة الاقتصاد القطري، إذ تشير التقديرات إلى أن مساهمة قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي مرشحة للارتفاع إلى 3.5% بحلول عام 2030، وهو ما يعكس تحول الاقتصاد نحو التنويع وتقليل الاعتماد على العائدات الهيدروكربونية.

كما تقدر وزارة الاتصالات أن تأثير التحول الرقمي على الاقتصاد القطري سيبلغ نحو 40 مليار ريال، من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين كفاءة العمليات الحكومية والخاصة. وتعليقًا على ذلك، شدد الخبير في مجال الذكاء الاصطناعي عبدالرحمن علي الحارب، في تصريح آخر لـ"قنا"، على أن الذكاء الاصطناعي يؤثر على الاستدامة والازدهار الاقتصادي بشكل فوري وفعال ويعزز الكفاءة والإنتاجية، ويقلل من التكاليف ويرفع من جودة المنتجات والخدمات، كما يسهم في تطوير حلول مبتكرة في مجالات مثل: الطاقة المتجددة، والرعاية الصحية، والتعليم، والصناعات ويفتح آفاقًا اقتصادية جديدة في السوق المحلي من خلال الخبرات الافتراضية للذكاء الاصطناعي المتوفرة على شكل بيانات ضخمة تساعد الحكومات أو الشركات أو الأفراد على اتخاذ قرارات مدروسة تعزز النمو الاقتصادي، وتخلق فرص عمل جديدة تسهم في ازدهار مستدام.

ولقياس التأثير الحقيقي للذكاء الاصطناعي على الناتج المحلي، شدد الحارب على أنه يجب أن تتوفر البيانات الضخمة وتحليل الناتج المحلي قبل وبعد اعتماد الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن المسؤولين ومتخذي القرار يجب أن يتعاملوا مع جميع مصادر البيانات الضخمة المحلية على أنها مصادر طبيعية مهمة يجب الحفاظ عليها وإيقاف تصديرها للخارج بالمجان، كذلك يجب على الدولة التركيز على استيراد البيانات بجميع أشكالها والاحتفاظ بها بمخزون البيانات الضخمة المحلي. ولفت إلى أن بعض القطاعات شهدت تحسنًا ملحوظًا بفضل تقييم الذكاء الاصطناعي، مثل: التصنيع، والخدمات، والزراعة، وقياس مساهمتها في زيادة الناتج المحلي الإجمالي، داعيًا إلى تأسيس منصات خدمات دولية على الإنترنت؛ لتعزيز جمع البيانات من شتى بقاع الأرض. وفيما يتعلق بالأدوات الوطنية لتقييم فعالية الذكاء الاصطناعي، نوَّه الحارب إلى أهمية إنشاء وكالة وطنية مختصة بالذكاء الاصطناعي تُعنى بشؤون الذكاء الاصطناعي وتقوم على دراسة مؤشرات الأداء "KPI" لجميع المجالات ومن خلالها تأسيس مراكز أبحاث متنوعة للشؤون الاقتصادية والصناعية والزراعية وغيرها من المجالات المهمة في الدولة. وفي الوقت الذي تتقدم فيه الدولة على صعيد بناء القدرات الرقمية، تسعى كذلك إلى تعميم ثقافة التحول المعرفي على مستوى المجتمع، من خلال برامج تستهدف تعزيز الوعي الرقمي، وتمكين المواطنين من التفاعل الإيجابي مع التطورات التكنولوجية. ويظهر ذلك جليًا في إطلاق المبادرات الوطنية مثل: "تحدي قطر الرقمي"، و"برنامج المهارات الرقمية للجميع"؛ التي تهدف إلى تعزيز المهارات الرقمية لدى جميع فئات المجتمع، لا سيما النساء والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة.

وبينما تعمل الدولة على تسريع التحول الرقمي في قطاعاتها الحيوية، يبرز قطاع التعليم كأحد المحاور الأساسية في إستراتيجية قطر للتحول المعرفي، حيث تم اعتماد نماذج تعليمية مبتكرة تدمج بين التعليم الحضوري والتعليم الرقمي، وتم إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمليات التقييم والتعلم الشخصي، وتسعى الدولة من خلال هذه السياسات إلى إعداد جيل يمتلك أدوات المستقبل وقادر على التفاعل مع متطلبات الاقتصاد الرقمي. كما يمثل قطاع الرعاية الصحية نموذجًا آخر لنجاح التحول الرقمي، من خلال استخدام السجلات الصحية الإلكترونية، ونظم إدارة المعلومات الطبية، وتطبيقات المراقبة الصحية -عن بعد- وأسهمت هذه الابتكارات في تحسين كفاءة الخدمات الصحية، وتقليل الفجوات الجغرافية، وزيادة إمكانية الوصول إلى الرعاية. ويعد التحول المعرفي في قطر مسارًا وطنيًا جامعًا؛ يهدف إلى خلق اقتصاد تنافسي ومجتمع مستدام، يقوم على الابتكار والريادة، وعلى الرغم من التحديات العالمية المرتبطة بسرعة تطور التكنولوجيا ومخاطرها المصاحبة، فإن التصميم القطري يمضي في هذا الطريق يظهر بوضوح في المؤشرات الإيجابية، والسياسات الطموحة، والاستثمارات المستمرة في رأس المال البشري والتقني. إن ما تشهده قطر اليوم ليس مجرد انتقال إلى اقتصاد رقمي، بل هو إعادة صياغة شاملة لنمط الإنتاج والاستهلاك، ونقل مركز الثقل من وفرة الموارد إلى وفرة المعرفة، بما يضع الدولة في موقع متقدم ضمن خريطة الدول الرائدة في الاقتصاد القائم على المعرفة، ومع اقتراب عام 2030، تتعزز فرص قطر في أن تكون نموذجًا عالميًا يحتذى به في التحول المعرفي المتكامل.


الوطن السعودية