شبكة عيون الإخبارية

قصة ملحمة الكابتن غزالي: «رفيق السمسية» من معسكرات الإنجليز إلى العبور

في دكانُه البسيط، المُكتظ بمئات الكتب، كان يجلس كابتن غزالي، يستقبل كل رموز الثقافة والفكر والأدب من الوافدين لزيارة السويس، فيما يمرّ عليه صلاح جاهين، أمل دنقل، ومحمود درويش، فكانت تلكَ الأيام تُسمى «أيام الكابتن غزالي»، أيام ظلام السويس، فمن كان يذهب إلى السويس، يبحث عن البشر، التاريخ، والإنسانية.

نشأ الكابتن غزالي، 10 نوفمبر 1928، داخل السويس، حسبْ أغلب المصادر الموثقّة، تلك المدينة ارتبطت منذ نشأتها بالمقاومة ضد كل أشكال القهر، بالتالي حمل «غزالي» في داخله روح المقاومة، كمّا عاش صباه وبدايات الشباب وسط أحداث تاريخية تجمّعت كلها في سنوات قليلة، حيثُ نشبت الحرب العالمية الثانية، وهو في الحادية عشرة من عمره، لتتحول السويس إلى ميدان قتال.

وبعد انتهاء الحرب، وصل عمره إلى سن الخامسة عشرة، وسط تصاعد الحركة الوطنية المصرية المناهضة للاحتلال، وما يمثلهُ هذا التصاعد من تجميع لكل القوى الرافضة لمحاولات القهر الأجنبي، وفقًا «سنوات الحُب والحرب»، للكاتب «حسين العشي»، الصارد عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

وعندّما بلغ «غزالي» سن العشرين في عام 1948، احتضنت السويس الجيش المصري، وكانت نقطة تجمع لقوات الفدائيين المتطوعين لمحاربة العصابات الصهيوينية على أرض فلسطين.

 

وفي عام 1948، التحق «غزالي» وهو في سن العشرين بالعمل في معسكرات الجيش البريطاني كموظف مدني، وكانت هذه المعسكرات، تتيح فرص عمل لعدد كبير من المواطنين والعمال المدنيين من أبناء السويس.

عمل «غزالي» في معسكرات الجيش البريطاني التى كانت تُحيط بالسويس، بيومية قدرها 360 جنية مليمًا يوميًا، وحينما ألغت معاهدة 1936، في أكتوبر 1951، وطلبت من إنجلترا سحب قواتها من منطقة القناة، ووفرت في نفس الوقت فرصة عمل، بديلة للعاملين المصريين الذين تركوا العمل في معسكرات الاحتلال.

عُينَ «غزالي» بعدها في وزارة العدل، بباب الخلق، إلى أن تم نقلهُ للسويس، حيث عمل في سكرتارية للمحكمة الشرعية بالسويس، وبعد إلغاء نظام المحاكم الشرعية، تم نقله إلى وزارة الزراعة.

جاءت بداية «غزالي» الفدائية، مع بدء حركة الفدائيين في منطقة القناة، ضد قوات الاحتلال البريطاني، والتى كانت مُحاطة بمجموعة من معسكرات الجيش البريطاني، وعدد من القوات البرية والبحرية، ومع بداية سنوات ثورة يوليو، واصل نشاطه العام، دون أن ينضم لأي من التشكيلات السياسية التى شكلتّها الثورة.

كانت لفرقة «الأرض» فصلٌ هام في مشوار كابتن غزالي، حيثُ أرسل الشاعر الجنوبيّ، عبدالرحمن الأبنودي، رسالتهُ المعنونّة بعلم الوصول إلى الكابتن غزالي وفرقته، سنة 1969، قائلاً:

«غنّى يا كابتن غزالى

غنّى يا ضيف

غنّى يا نمس

غنّى يا درش

غنوا

ده ليلنا طويل

بنقطعُه بالغنا»

في البدء، وقبل تكوين فرقة «أولاد الأرض»، كانت كلمات الكابتن غزالى تخرُج من داخله إلى المحيطين به، ويرددونها أيضًا، ليصبح ما يخرج منه ليس مجرد كلمات فقط، بل أغنيات متكاملة الأركان، من شدو ولحن ونظم بإيقاع حزين، يتصاعد حتى يصل إلى قمة التأر، حين تنخفض لغة الحزن وتتجمع كل أصوات الجالسين في خنادق المقاومة، بصوت يهز سكون الليل، مُرددًا: «مش حنسلم لأ لأ، قالها الشعب، صاحب الحق».

لم تكُن الكلمات مجرد أغنيات تقطع علينا سكون الليل، بل هي إعلان شعبي للموقف الذى اتخذه الشعب المصري، رغم الهزيمة وتدمير الألة الحربية، للقوات المسلحة، وتحطُم الطائرات المصرية على الأرض، ليستقر الكابتن غزالي على تسمية التجربة باسم «ولاد الأرض»، بعد أن كانَ اسمها «بطانية ميري».

ولإسم «بطانية ميري» حكاية، ففي الأيام الأولى كانت المجموعة، تجلس كل ليلة على البطانية الرصاصي الميري، المفروشة على أرض الخندق، ليجلس عليها المنشدون، والذى يرددون معهم كلمات الأغاني، لذا كانت تُسمى في البداية «بطانية ميري».

«وفي أول رحلة لفرقة أولاد الأرض خارج السويس، كانت دعوة للكابتن غزالي، وفرقته للغناء من كلية الهندسة، جامعة الإسكندرية، وانبهر الطلاب بهذه الفرقة البسيطة التى هزَّت مشاعرهم فغنوا معها بملء قلوبهم من الحماس».

وعندما التقى «غزالي» بمثقفي القاهرة الذين يقضون ساعات الليل والنهار في نقاشات سياسية عقيمة، حسبْ وصفه، قال: «يا شعرا يا كُتاب يا نضال ع القهاوي، يا همّ يا غم يا سبب البلاوي».

وبعد أنّ كان «غزالي» مؤسس فرقة «أولاد الأرض»، أصبح مزارًا ورمزًا للمقاومة السياسية، يقول: «يا رايح السويس.. بلدي وأملي.. وغنايا.. متطلش ع الخرايب.. ولا تحزن ع اللي.. غايب».

ظلّ «غزالي» يطوف المدن ويزور المهجرين في معسكراتهم الجماعية، يواسيهم في الغربة ويوصيهم بالصبر ويعدهُم بالعودة بعد أنّ يتحقق النصر المبين، فيغني لهم: «غني يا سمسمية، لرصاص البندقية.. ولكُل إيد قوية، حاضنة زنودها المدافع».

وفي أشدّ لحظات التفاف مختلف الفئات حول الكابتن غزالي، صدر قرار من الاتحاد الاشتراكي العربي وهو في أوج تألقه هو وفرقته بمنعه من دخول السويس، وأصبح محرومًا من دخول مدينته التى أحبّها كل هذا الحب، والتى كتب فيها أشعاره الحماسية، لم يستسلم وقتها، فطاف بفرقته كل المدن والقرى والنجوع يغنى لمصر وشعبها، ويعدهُم بالنصر القريب.

وعندّما قامت الحرب، وحوصرَت السويس وهو خارجها، ظلّت أغنيات «غزالي» تتردّد في ليالي الحصار المظلمة، وبعد انتهاء العدوان الثلاثي، عاد «غزالي» إلى متابعة نشاطه الطبيعي، في المجال الرياضي، ساهم في تدريب وإعداد المئات من أبطال وممارسي لعبة المصارعة، حيث كان المدرب الرسمي لاتحاد اللعبة، بالإضافة إلى تدريب الفرق الرياضية، في مركز شباب المدينة، حتى عام 1959، ثم انتقل إلى نادي السويس الرياضي.

وبعد النكسة، لم يستسلم «غزالي» أيضًا، بلّ شجع الجميع على النضال والمقاومة، مُرددًا كلماته التى حفظها التاريخ:

«بينا يلا بينا
نحرر أراضينا
وعضم اخواتنا
نلمه نلمه
نسنه نسنه
ونعمل منه مدافع
وندافع
ونجيب النصر هدية لمصر
ونكتب عليه أسامينا»

كمّا انتقد الإعلام المصري في تلك الفترة، وما تبثه الإذاعة المصرية من أغاني عاطفية، حتى أنه كان يسخر من أغنية عبدالحليم حافظ «سواح»، وقال:

«لا مش حاغني للقمر

ولا للشجر

ولا للورد في غيطانه

ومانيش سواح

ولا حقول للهوا طوحنا

طول يا بلدي ما فيكي شبر مستباح»

صحيح أنّ «غزالي» تعرض للموت أكثر من مرة أثناء نضاله، لكنّ جاء وقت الجدّ أمس، حيث رحل عن عمر يناهز 89 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض بسبب أمراض الشيخوخة من قلب وضغط وجلطة، ولكن ظلّت كلماته رمزًا لحكاية المقاومة الخالدة:

«غنّي يا سمسمية
لرصاص البندقية
ولكل إيد قوية
حاضنة زنودها المدافع
غني لكل دارس
في الجامعة والمدارس
لمجد بلاده حارس
من غدر الصهيونية
غنّي لكل عامل
في الريف وفي المعامل
بيأدي الواجب كامل
وادّيله وردة هدية
غنّي ودق الجلاجل
مطرح ضرب القنابل
راح تطرح السنابل
و يصبح خيرها ليّ»

 

المصدر : المصرى لايت

أخبار متعلقة :