أخبار عاجلة

عمى الذى لم تلده جدتى

لم يمن الله على جدتى سوى بأبى، ذكر على ثلاث بنات، هكذا ولدت محروما من «العم»، واللى من غير عم حاله يغم، كنت كلما أشرقت شمس أتلمس بين المحترمين «عماً» لم تلده جدتى، كنت أتوسم فى عمى (الروحى) خصال والدى، وكنت أحبه حبين: حب الابن لأبيه، وحباً لأنه أهل لذاك.

لم أتذوّق كلمة «عمى»، يقال إن مذاقها حلو يفوق كلمة «الخال» حناناً، والخال والد، وحتى شارفت ع الخمسين، واشتعل الرأس شيبا لم يظهر هذا العم الطيب، وفقد أثره تماما، حتى ظهر إذ فجأة عمى سعد هجرس، بعمومة لا يجود الزمان بمثلها، ولو اجتهدت جدتى فى خلفتها ما كانت أنجبت لى عماً بهذا الألق الإنسانى الرائع.

عاش ومات ولم يعرف سر تعلقى بحضرته، كان قطبًا وكنت من المريدين، وهم كثر، كانوا أكثر من عدد شعر رأسه، ولكنى كنت حجزت لنفسى مساحة «العم» فى حياته، وأتاحها كاملة بحب نادر، كان عما طيبا، جميعا ينادونه «عم سعد» وكنت أنا وحدى أناديه «عمى سعد»، والياء كانت تخصنى وحدى، لا يشاركنى فيها أحد، وإن شاطرنى فى عطفه كثيرون، ولم يتبق من حوله فى شدته سوى ندرة من المحبين.

فى أيامه الأخيرة، تمنى من مولاه جلّ علاه أن يعفو عنه فقط ليكتب، وسال الدمع منه وهو يتشوق للكتابة، وكأنه دون أن أعرف يعرف أنه لن يكتب ثانية، ولن يعطر الورق بأريج حبره مرة أخرى، وكان عنده أمل أن يكمل مشروعًا فكريًا كان قد اختطه سطورا.

يسرح قليلا، يذهل عنى، يذهب فى سنة من النوم الذى كان عزيزا، لم يذق النوم طوال أسابيع مضت سوى سويعات لا يقمن صلبه، كان يتمنى النوم ولو قدر ساعة، يستفيق من غفوة لم تدم سوى دقائق معدودات، يعاوده الحلم الضنين، عارف يا حمدى لو كتب لنا عمر سيكون مشروع عمرى، متطوعا أسأله: هل أحضر إليك مسجل تتلو عليه أفكارك؟.. يسألنى بقلق مستبد: هو الدكتور قال لك أنا مش هقدر أكتب تانى، أنفى تماما وأقسم وهو غير مصدق.

يسود الصمت الغرفة الباردة، يكسر الصمت الذى صار بيننا بالألم، تند عنه أهة تخلع القلب منى، أخشى دمعا يفضحنى، أتوارى، أهرب من قسوة الألم الذى ينهشه إلى بصيص من الأمل حلو، كل ما تبقى من حياته، يحكى عن أولاده هند وسارة وأدهم، يفتر ثغره عن ابتسامة على ذكر أحفاده آدم ويحيى وتريزة، كان يشرق من جديد حين يتذكرهم، يهزم بهم الألم.. تألم كثيرا ورحل سريعا، وعدت من معيته يا مولاى كما خلقتنى، بلا أب وبلا عم، يرحمه الله.

SputnikNews