أخبار عاجلة

محاولة عبثية لتدريب الديناصور على القراءة

هل قرأت مقالي السابق بعنوان: "7 قصص رمزية عني وعنك.. عن الشعب"؟

إذا كنت لم تقرأه، فيجب عليك أن تبدأ فورا في قراءته على هذه الوصلة: http://www.almasryalyoum.com/news/details/447623

وإذا كنت قرأته، فيجب عليك أيضا أن تعيد قراءته بالتوازي مع هذا المقال!

قد تحدثك نفسك بأن المقال غريب، و"متحزلق" وبعيد عن واقعنا الساخن وقضايانا الملتهبة، ويمكنني أن أرد عليك بأساليب البيع والتسويق التي سيطرت على كل شئ في حياتنا، فأقول لك، أن القصص المختارة نالت إعجاب كبار الأدباء والنقاد في العالم، وأن عدم الإعجاب بها، قد يشكك في ذكائك، ويسئ إلى صورتك كمثقف، ألا تعرف أن ماركيز كان مبهورا بأسلوب أوجستو مونتيروسو، وكتب بنفسه مقدمة لإحدى مجموعاته نصح فيه القراء من أمثالك برفع الراية البيضاء والاستسلام التام عند قراءة قصصه، ووصفها بأنها تتضمن "حكمة خفية وراء السطور، وروعة قاتلة، تكسو الجدية برداء من الفكاهة والتهكم".

وإذا كنت من المعجبين أكثر بالثقافة الأوروبية، فيكفي أن تعرف أن المبدع الإيطالي الكبير ايتالو كالفينو، سحر الأوروبيين جميعا بترجمته لقصص مونتيروسو، وتقديمه الخرافي لقصة الديناصور التي تصدرت مقالي السابق.

6 كلمات فقط استولت على خيال الجميع، وشغلت النقاد والأدباء، واحتلت مكانها في الادب العالمي كأقصر قصة متكاملة في تاريخ الأدب "عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال موجودا"!

هل توافق ماركيز وكالفينو على هذا الإطراء، وما تفسيرك لهذه القصة؟

علق صديق قائلا: بعد 3 سنوات من ثورة الشعب للمطالبة بالحرية مازال ديناصور الديكتاتورية موجودا، واكتفى آخر بالقول إن الديناصور هو الخوف الذي يلازم الإنسان منذ البداية وحتى الآن، حيث فشلت كل محاولات العلم والتطور والحضارة والتسليح في القضاء على ديناصور الخوف، فلم ينقرض كما تخيلنا في أحلام النوم، وكلما نستيقظ نجده، وتحدث آخرون عن الهموم التي ننام ونصحو عليها، وقال مستظرف: لدي قصة أجمل وأكثر اختصارا عن الثورة "جت الحزينة تفرح، مالقتش مطرح"، واضاف مازحا: شوفت؟.. 5 كلمات فقط!

هذا التنافس على لقب أقصر قصة في العالم، لم يقتصر على صديقي المستظرف، لكنه أصاب الأوروبيين بنوع من الهوس، والغيرة من ذلك الأديب الجواتيمالي الذي لم يحصل على الابتدائية، وظهرت في فرنسا موجة "الميكرو نوفيل"، وتكررت المحاولات لكتابة قصة بأقل من 6 كلمات، وفشل الجميع حتى نجح المكسيكي لويس فيليب لوميلي مع مطلع الألفية الثالثة، في الفوز بجائزة سان لويس بوتوسي، وصار صاحب أقصر قصة في العالم بعنوان "المهاجر" وهي تتكون من 4 كلمات فقط: "هل نسيت ذلك؟ نأمل"، والمعنى مباشر، وربما يرتبط السؤال بحياة مونتيروسو نفسه ذلك المغترب الذي ولد في هندوراس عام 1921، وفي الخمسينيات عمل دبلوماسيا لجواتيمالا في بوليفيا، ولما احتلتها أمريكا لجأ إلى شيلي لمدة عامين قبل أن يستقر في منفاه الأخير بالمكسيك، وينجز مشروعه الأدبي على مدى نصف قرن.

هل كان مونتيروسو نفسه هو "المهاجر" الذي قصده لوميلي؟، وهل فازت القصة لأنها تفصح عن رغبة المكسيك في أن ينسى المهاجرون إليها، أصولهم القديمة، وينتسبون إليها ويعترفون بفضلها، خاصة وأنها صارت وطنا (لا منفى) لعشرات الأدباء والفنانين والسياسيين من أنحاء العالم، أشهرهم طبعا بابلو نيرودا (تشيلي)، ماركيز (كولومبيا)، مونتيروسو (جواتيمالا)، فوينتس (بنما)، تروتسكي (الاتحاد السوفيتي).. وغيرهم.

قد تستيقظ حضرتك من هذا الاسترسال في المقال اللاتيني العجيب، فلا تجد إلا ديناصور الكتابة وحضور الأدب والرغبة في معرفة الجديد، وقد تسألني عن المغزى من المقال وفكرته، فأقول لك: عندي أمل أن تنسى القضايا التي غرقنا فيها وسرقتنا من الحياة.. من الغرام بالحدوتة، والإعجاب بالنصوص العظيمة والصياغات الحلوة، والولع بالأسطورة والرمز، وخرافة الأجداد المحكية التي لا تنتهي معانيها، مهما تعدد الشكل بين رواية، أو فزورة، أو حزورة، أو اقصوصة، فالصديق الراحل تيتو (اسم الدلع لموننتيروسو)، لا يعرف هو نفسه معنى محددا للديناصور، فهناك تفسيرات لا نهائية، لأن القصة هي قصة الإنسان والكون.

أما الرد على سخرية بعض الأصدقاء من استخدام تيتو للحيوانات في كل قصصه، ووصف أحدهم لذلك بأنه تسطيح يهبط بمستوى النصوص لأدب الأطفال، فليس هناك أقوى من تذكيرهم بأعمال عظيمة في تراثنا مثل "كليلة ودمنة"، أو بأعمال عظيمة في الأدب العالمي مثل "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل، مع فارق عصري اعتمد فيه تيتو على التكثيف الشديد، والمفارقة الساخرة، وروح المرح والتهكم التي تتضمن معاني لا نهائية مثل دمية الماتريوشكا الروسية، التي تتكون من دمية داخل دمية داخل دمية، في محاولة للإيحاء بأن العالم يتوالد دائما ولا ينتهي.

وأعترف أن الرغبة في حرية التلقي، والإيحاء اللطيف باستمرار توالد المعنى، هما الدافع الذي جعلني أحذف عناوين القصص من المقال السابق حتى لا تؤثر على قراءتك الحرة لها، فهل كان يجب أن أضع عنوانا عن "هاجس الهوية" في قصة الضفدع، أو الدونية في قصة الحصان، أو الانسحاق أمام الآخر لدرجة قبول التناحر الداخلي في قصة غابة النباتات؟

تحمل جنوني يا صديق، انطلق معي في فضاء الغرائبية.. اركب حصان خيالك.. درجن درجن.. درجن، وجرب القراءة الحرة في هذه القصة الرائعة المأخوذة رأسا من واقعنا المختل، والتي تحكيها "الزرافة التي أدركت أن الأمور نسبية"، وبالمناسبة هذا هو عنوان مونتيروسو، وقد ذكرته هذه المرة لأنه مثل القصة، يجمع بين فضاء الفلسفة ودهشة المفارقة، وهذه هي القصة:

* كان ياما كان في سالف العصر والأوان، زرافة في فترة المراهقة تعيش في حالة من السرحان، حتى أنها ضلت الطريق فخرجت من الغابة، ولم تعد تعرف أين هي، فظلت تمشي ربما تجد طريق العودة، وأثناء سيرها في رحلة التيه، وجدت نفسها بين هضبتين وسط معركة حامية، ورأت الكثير من جثث القتلى، وسمعت أوامر القادة للجنود بالاستمرار في المعركة، والدفاع عن الأرض التي تلونت بلون الدم. كان هناك سيوف تلمع، ومدافع تدوي، وجثث تتساقط بلا توقف، ودخان كثيف، ومقاتلون في الجانبين وسط هذا الجنون، يتفاخرون بأن التاريخ سوف يذكرهم كأبطال لأنهم انتفضوا دفاعا عن الراية، والمضحك أن التاريخ كان كريما طيعا، ومنح كل طرف ما يرنو إليه، فأصبح «ويلنجتون» بطل الإنجليز، ونابليون بطل الفرنسيين.

استمرت الزرافة في المشي حتى صارت في حفرة منخفضة قرب مدفع كبير، وبينما هي تنظر إليه، رأت رصاصة تمر فوق رأسها بمقدار عشرين سنتيمترا فقط، ففزعت، وقالت لنفسها: الحمد لله أنني في فترة المراهقة، فلو أنني أطول منذ ذلك بثلاثين سنتيمترا، فلا بد أن الرصاصة كانت ستصيب رأسي. والحمد لله أنني وصلت إلى هذه المنطقة المنخفضة، بمقدار ثلاثين سنتيمترا، لأنني لو كنت في مستوى الأرض العادية لكانت الرصاصة قد أصابت رأسي، ثم أردفت قائلة: «الآن فقط فهمت أن كل الأمور نسبية».

لا أعرف هل انتهت قصة الزرافة الغافلة التائهة أم لا؟، كل ما أعرفه أنها فهمت النسبية، لكنها لم تعرف طريق العودة بعد، ومازالت تعتقد أنها يجب أن تعيش آمنة في الحفرة المنخفضة بمقدار 20 سنتميترا حتى لا تصيبها الرصاصة الطائشة!

tamahi@hotmail.com

SputnikNews