أخبار عاجلة

«مياه فضية»:تحفة لا مثيل لها فى السينما العربية وصرخة من أجل سوريا

هناك أفلام تصبح من كلاسيكيات السينما فور انتهاء العرض العالمى الأول لها، ومنها الفيلم الألمانى الفرنسى المشترك «مياه فضية: سوريا صورة ذاتية» إخراج أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان الذى عرض فى قسم عروض خاصة فى مهرجان كان. إنه تحفة لا مثيل لها فى تاريخ السينما العربية، وصرخة مدوية للعالم من أجل إنقاذ سوريا.

إنه ليس فيلماً تاريخياً يؤرخ لثورة الشعب السورى من أجل الحرية ضد النظام السورى البعثى الدموى، والتى بدأت فى 15 مارس عام 2011، فالتاريخ لايزال يصنع فى سوريا، والفصل الأخير لم يكتب بعد، كما أنه ليس فيلماً سياسياً يحلل الوضع العربى والإقليمى والدولى، ومن الذى يبيع ومن الذى يشترى، ولماذا وكيف. إنه قصيدة بلغة السينما الصافية يلتحم فيها الذاتى والموضوعى فى وحدة عضوية مثالية، وتقطع خطوة كبيرة فى سينما ما بعد الحداثة العربية، وتساهم بقوة فى الشكل الجديد للسينما الذى يتكون فى إطار الثورة التكنولوجية، ويتجاوز التصنيفات التقليدية حيث تزول الفوارق بين الروائى والتسجيلى، ويصبح الفيلم فيلماً منسوباً إلى مؤلفه وإلى مدة عرضه، وهى هنا 92 دقيقة.

فيرتوف وروم وجودار

درس أسامة محمد فى معهد السينما بموسكو أيام الاتحاد السوفيتى، ولاشك أنه شاهد ودرس فيلم ميخائيل روم «فاشية عادية»، والذى صنف كفيلم تسجيلى، ولكنه كان شكلاً جديداً للسينما حيث شاهد روم عشرات الآلاف من اللقطات السينمائية عن الحرب العالمية الثانية التى صورت لأغراض مختلفة، وأعاد صياغتها بحيث تحولت إلى مادة خام عبر بها عن رؤيته للحرب. ولاشك أيضاً أن أسامة شاهد ودرس فيرتوف، والمصنف كمخرج تسجيلى أيضاً، وكيف جعل من السينما أداة لتغيير الواقع المعاش، ولاشك ثالثاً أنه شاهد ودرس الشكل الجديد الذى ابتكره جودار للفيلم السياسى وكيف جعل الكاميرا أشبه بالقلم قبل اختراع كاميرا الموبايل التى أصبحت قلماً بالفعل.

فى «مياه فضية» يستوعب فنان السينما السورى فيرتوف العشرينيات وروم الستينيات وجودار الثمانينيات معاً، ويصنع فيلمه الخاص الذى لا شبيه له. هنا يستخدم الفنان لقطات الموبايل التى صورها ألف سورى وسورية كما يذكر فى عناوين الفيلم، ويعيد صياغتها ويتأملها ويدعو جمهوره إلى تأملها، ويستنهض إنسانيته ليدافع عن حق السوريين فى الحياة الحرة الكريمة.

وعلى شريط الصوت يروى الفنان ثم تروى الفنانة التى اشتركت معه فى الإخراج، وكيف تعارفا عبر الاتصالات وهو فى منفاه فى باريس حيث ذهب فى مايو عام 2011، وهى فى حمص المحاصرة. وعلى شريط الصورة كتابات أبيض على أسود تتقاطع مع الصور وتتكامل معها. ثم هناك اللقطات التى صورها الفنان بنفسه فى باريس، وهى لقطات طبيعة صامتة. ويصل الأسلوب الشعرى إلى التجريد المطلق فى لحظات مع نغمات موسيقية قليلة وحذرة ومؤثرة من تأليف نوما عمران، ومختارات من مقاطع أوبرالية تحلق بعيداً تأتى فى موضعها تماماً. وفى عمل كهذا لا يقل إبداع المونتيرة ميسون أسعد ومصمما شريط الصوت رفاييل جيرو وجان-مارك شيك إبداعاً عن عمل المخرجين.

فاشية غير عادية

لا توجد فى الفيلم سوى وثيقة واحدة بالأبيض والأسود تأتى فى منتصفه عن الرئيس حافظ الأسد مؤسس النظام الذى ورثه ابنه بشار، والذى يعرف فى الحاضر وسيعرف فى التاريخ باعتباره ج سوريا، وبعد أن تفوق على أبيه فى أعداد الضحايا، وأضاف تدمير البشر والحجر معاً، ودفع ملايين السوريين لأول مرة فى تاريخهم العريق إلى الهجرة والعيش فى المخيمات فى الدول المجاورة.

كان عنوان فيلم روم «فاشية عادية» مثيراً للتساؤل عما يقصده بـ«العادية». ويقدم أسامة محمد فى فيلمه الإجابة عن سؤال أستاذه. كما يشير إلى أنه هاجر إلى باريس يوم 9 مايو، ذكرى الانتصار على الفاشية فى الحرب العالمية الثانية، ولكنه لا يوضح إن كان قد تعمد ذلك أم أنها صدفة «تاريخية». وعنوان «مياه فضية» معنى كلمة سيماف باللغة الكردية، فالفنانة التى صورت مشاهد حمص من الأكراد. وربما يكون اللقاء بين أسامة وسيماف هو الصدفة التاريخية المؤكدة، فالسوريون أصبحوا يعانون بدورهم مثل الأكراد، والذين يعتبر تاريخهم سلسلة طويلة من المعاناة.

هنا نشاهد الفاشية غير العادية فى لقطات لم تصور من قبل منذ اختراع التصوير، وغير العادى حقاً ليس فقط محتوى اللقطات، وإنما أنها مصورة بواسطة الجلادين أنفسهم، والذين تحول كل منهم إلى ج صغير يقتدى بالج الكبير، فتصويرهم لأنفسهم أو السماح لغيرهم بتصويرهم وهم يعذبون المعتقلين ويجبرونهم على تقبيل أحذيتهم، بل والسجود لصورة بشار باعتباره إلهاً يُعبد، يعبر عن حقيقة أنهم تحولوا إلى وحوش بشرية، ويفاخرون بوحشيتهم وكأننا فى العصر الحجرى قبل أن ينطق الإنسان ويدرك.

هنا نرى الأحياء يسحبون من الشوارع بالخطاف، جثث القتلى من المدنيين السلميين الذين يقتلون على نحو عشوائى، والحيوانات المقتولة جنباً إلى جنب مع البشر، والنازحين على الطرق، والقطة التى فقدت أحد أرجلها ولاتزال تصر على البقاء. ويستجمع أسامة وسيماف كل ما بقى لهما من قدرة على الحياة والبحث عن بصيص من الأمل لينهيا فيلمهما بترجمة بعض الكلمات من العربية إلى الكردية مثل هافالو والتى تعنى الصديق وغيرها، ولتكون الكلمة الأخيرة هى الحرية.

samirmfarid@hotmail.com

SputnikNews