أخبار عاجلة

من النهر إلى البحر!

ربما لم تكن ساحة الانتخابات الرئاسية غنية لا بالمرشحين، ولا بالأفكار على الأقل حتى وقت كتابة هذا المقال، ولكن الحال يؤدى إلى استشفاف وجود مدرستين فى التفكير يبدو لسبب أو لآخر أنهما يعكسان الواقع السياسى فى البلاد. الأول يمثله الأستاذ حمدين صباحى وجوهره العودة إلى الستينيات مرة أخرى مع بعض التحسينات هنا أو هناك، أو مع الأمل فيها، لعل فى كثرة الأمل وطغيان التفاؤل تتولد موارد من سراب. والثانى يطرحه المشير عبد الفتاح السيسى ويقوم على نوع من التنمية الشاملة التى تعبأ فيها الموارد الوطنية بحيث تكون فى النهاية قادرة على تحقيق «قفزة» كبيرة إلى الأمام فى الحياة المصرية.

الاتجاه الأول أرقامه غير محسوبة، ولديه نوع من العمى التاريخى الذى لا يعرف حقا ما جرى للقطاع العام وأسباب فشله وعجزه عن المنافسة الداخلية والخارجية، وكل ذلك وهو لا يستوعب أكثر من ٣.٥٪ (ثلاثة ونصف فى المائة) من اليد العاملة، ونصيبه من السوق السلعية فى حالة انكماش مستمر. هناك تصور أن معجزة ما يمكنها أن تحدث، فتتولد قيادات لم تظهر منذ عقود، ويتوقف نزيف وحدات إنتاجية «عامة» -أى لا يملكها أحد- ولا تعمل على أسس اقتصادية، لأنها باختصار مهمتها تقديم الخدمات للعاملين فيها بأكثر مما تقدم للسوق من بضائع. المرشح الرئاسى الذى سوف يكون مشغولا بإعادة النظر فى اتفاقيات كامب دافيد الأستاذ حمدين صباحى، يتصور أنه يمكن إحياء العظام وهى رميم، وتحقيق تجربة نجاح لم يحدث أن نجحت فى بلد من بلدان العالم. الاتجاه الثانى أكثر تعقيدا لأن التنمية وتعبئة الموارد من أجلها ربما تشكل فرصة جديدة لتحقيق انطلاقة مصرية أخرى، خاصة أنها تركز بإلحاح على ثقافة العمل والإنجاز. الفكرة لدى المشير السيسى قديمة الطرح فى حتى إنه بعد تصاعد معدلات النمو إلى أكثر من ٧٪ طرح بعض رجال الأعمال فكرة استيراد العمالة من الخارج إما لأن العمالة المصرية لا تمتلك المهارات الكافية، أو لأنها لا تعرف ثقافة العمل والاجتهاد فضلا عن الابتكار. كتبت عن ذلك فى حينه، وفيما أعلم فإن ساسة مصر تغاضوا عن الموضوع حتى طرحه المشير السيسى بإلحاح على أساس أن ذلك جوهر العملية التنموية لأن تحويل الموارد إلى تنمية شاملة لا يكون إلا بالعمل الشاق حتى لا يعرف النوم طريقه إلى الجفون.

الموارد فى مصر كثيرة، وما فيها تم استغلاله قليل، وكلها متاخمة للنهر العظيم الذى سار فى طريقه المخلد من المنبع إلى المصب طوال تاريخ طويل ممتد منذ كان عدد سكان مصر لا يزيد على بضعة ملايين، حتى بات قريبا من ٩٠ مليونا. النيل بات فى خطر الآن، والسكان ما زالوا يزيدون، وعندما طرح المشير ضرورة الخروج إلى الوادى كان يستعيد شعارا قال به كل من حكموا مصر من قبل، ومع ذلك فإن التنمية لم تصل كثيرا بعيدا عن الوادى. ويشهد على ذلك أنه من بين التسعين مليونا يوجد ٥٧٤ ألف نسمة فى سيناء، ومساحتها بضعة أمثال القاهرة التى بها منكمشة (أى مدينتا القاهرة والجيزة) ١٥ مليون نسمة، أما إذا أخذنا العاصمة مع امتداداتها لكان المجموع ٢٢ مليونا. أما البحر الأحمر فلا يوجد به أكثر من ٣٢٨ ألفا، والوادى الجديد ٢١٥ ألفا، أما محافظة مطروح فليس بها إلا ٤٠٤ آلاف نسمة، أى أن مجموع كل ما هو خارج الوادى لا يزيد على مليون ونصف أو أكثر قليلا، وهى شهادة على فشل تاريخى يحتاج إلى تصحيح لأنه يمثل كارثتين، على رئيس الجمهورية القادم أن يواجههما بالفكر والعزم والتصميم. الكارثة الأولى أن الموارد العظمى توجد حيث لا يوجد المصريين؛ ويتواجد هؤلاء حيث نضبت الموارد أو باتت على وشك النضوب. والثانية أن مطالب هؤلاء السكان ضاغطة بشدة على كل من سكن فى قصر العروبة (الاتحادية) بحيث جرى تجاهل تنمية المناطق الأخرى فى مصر. كان هؤلاء يريدون باستمرار المدارس والجسور والمستشفيات ومحطات الطاقة وأرض للمدافن، وأخرى للترفيه، ومصانع للعمل ومزارع للغذاء وهكذا، وإلا كان هناك إضرابات وتظاهرات وضيق. وكانت النتيجة أن التنمية فى المناطق خارج الوادى إما أنها لم تحدث على الإطلاق، أو أنها سارت ببطء شديد، وفى بعض الأحيان طرح أن التنمية فى المناطق الحدودية يمكنها أن تضر بالأمن القومى وكأن الأمن القومى المصرى لا يمكن حمايته إلا عندما تكون مصر محاطة بالصحراوات والخفة السكانية من كل جانب.

الأمر هنا يحتاج إلى عودة مرة أخرى، ولكن ما يهمنا فى مقام انتخاب رئيس جديد أن التنمية بالخروج من الوادى هى المفتاح لتحقيق القفزة المطلوبة من ناحية، وحماية الأمن القومى من ناحية أخرى. وهنا لدينا تجربة تاريخية ربما كانت «تجريبية» ولكنها يمكن أن تدلنا على الطريق فيما جرى لمدينة مرسى علم عندما أعطيت امتيازات واسعة لشركة الخرافى الكويتية كان منها إنشاء مطار، وميناء، فكانت النتيجة مدينة ذات ٤١ فندقا وأشكالا أخرى من السياحة ممتدة حتى ميناء السويس عبورا بمدن القصير وسفاجا والغردقة ورأس غارب ومنطقة العين السخنة التى ارتبطت بالقاهرة من خلال طريق جعل للعاصمة شاطئا قريبا. جنوب سيناء تقدم مثالا آخر، ولكن الأمثلة بعد ذلك شحيحة وتدل على عجز مجتمع ليس فقط عن الاستفادة من أخطائه، وإنما أيضا الاستفادة من إنجازاته. ومن عجب أن المصريين لديهم وله بتكرار الحديث عن إنجازات دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكن أحدا لا يريد الاستفادة منها هى الأخرى. ولمن لا يعلم فإن هذه الدولة العربية الشقيقة لديها ناتج محلى إجمالى يتجاوز ٤٠٠ مليار دولار، يبلغ نصيب النفط فيه ٢٦٪، وتسعى الخطط الحالية بالدولة لكى تنخفض هذه النسبة إلى ١٥٪ خلال عقد قادم. كيف حدث ذلك يعود إلى حزمة من الأمور: أولها تحلية المياه من البحر التى انخفضت تكاليفها انخفاضا كبيرا حتى إنه يمكن القول بأنه يمكن الاستغناء التام عن مياه نهر النيل فى كل ما يخص المناطق المصرية الساحلية. وثانيها تغيير جغرافيا المدن حتى إن دبى وأبوظبى لم تبقيا على حالهما القديم، وإنما تحولت مياه الخليج إلى قنوات تتخلل المدن وعلى شطآنها تجرى استثمارات السكن والفندقة وهو ما يمكن أن يحدث على نطاق واسع على ساحل البحر الأحمر والأبيض وخليج السويس والعقبة. وثالثها إطلاق مبادرة القطاع الخاص- الذى شجعناه على نطاق ضيق فى مرسى علم والغردقة وشرم الشيخ- لكى يتحرك على نطاق واسع، فتكون حرية الاستثمار، والدخول والخروج من السوق. ورابعها إقامة البنية الأساسية عن طريق القطاع الخاص أيضا كما حدث مع المطارات والموانئ، وإذا كان لدى الدولة موارد كافية فإن ما نحتاجه كثير، ولكن السير كالسلحفاة كما حدث مع طريق قنا- سفاجا، فإن التنمية لا يجب أن تنتظر أحدا.

وبصراحة لماذا لا يقوم الرئيس المؤمن بفلسفة التنمية الشاملة، والعمل الشاق من أجل تحقيقها، بتجربة إنشاء مدينة شبيهه بما يجرى فى مدن دولة الإمارات، فتكون سفاجا مثل دبى، والعلمين مثل أبوظبى. كلا المدينتين موجدتين بالفعل على خريطة التنمية المصرية، وبينما للأولى تاريخ فى السياحة العلاجية، فإن الثانية فيها الكثير من التاريخ حيث جرت فيها معركتان أثناء الحرب العالمية الثانية (١-٢٧ يوليو ١٩٤٢ و٢٣ أكتوبر إلى ٤ نوفمبر ١٩٤٢). ولكن ما نحن بصدده ليس مجرد الاستفادة من ينابيع ذات طبيعة صحية، أو من شريحة صغيرة من عشاق التعرف على أول انتصار للحلفاء فى الحرب، وإنما نحن بصدد تنمية شاملة لموارد موجودة، وتحتاج إلى توسع وامتداد من خلال قرارات سيادية يتخذها الرئيس الجديد تكون مؤشرا على الرغبة فى مشاهدة تدفق المصريين من النهر إلى البحر. والحديث ممتد.

SputnikNews