أخبار عاجلة

تدريس العلوم السياسية

التدريس مهنة شاقة، لا يدفعنى للتمسك بها سوى رغبتى فى أن أكون محاطة طوال الوقت بالأكثر ذكاء وإبداعا. والشباب، فى أى مجتمع، هم الأكثر ذكاء وإبداعا. غير أننى أشعر بقلق عميق على أجيالنا الجديدة مما تورثه لهم نخبة ليست بارعة إلا فى التوريث، فرغم أننى أُدَرِّس عددا من المواد المتعلقة بالولايات المتحدة الأمريكية، فإننى أولى اهتماما خاصا لمادة «المقدمة فى علم السياسة»، لأنها تلقى على عاتق الأستاذ مسؤولية وضع الأساس الذى سيبنى عليه طالب العلوم السياسية طوال فترة دراسته.

والحقيقة أننى واجهت فى الفصل الدراسى الحالى مفاجآت مؤلمة للغاية، فما يقوله الطلاب، اليوم، لم أسمعه طوال عقد كامل من تدريس هذه المادة. وهو يتعلق بأمور كان زملاؤهم الذين سبقوهم يعاملونها كبديهيات. خذ عندك ما فوجئت به فى محاضرة القوة والسلطة والشرعية، فما إن نطقت بكلمة «الشرعية» حتى انفجر الطلاب فى الضحك والسخرية، ولم لا، وقد تعرض ذلك المفهوم مؤخرا للابتذال. لكن تلك لم تكن المفاجأة الأكثر إيلاما، ففى محاضرة «القيم والسياسة»، التى تتناول قضايا حقوق الإنسان، كانت المفاجآت الأكثر إيلاما، فلأول مرة فى حياتى الأكاديمية، يفاجئنى طلاب المادة بعدم اكتراثهم إطلاقا بمفاهيم حقوق الإنسان. خذ عندك مثلا موضوع الحريات والقمع، فقبل ثورة يناير، كان الطلاب يعارضون القمع بشدة، ويشيرون إلى وقائع منها ما جرى لـ«خالد سعيد» وغيره من جيلهم، وبعد الثورة مباشرة، كان الطلاب هم الأكثر اهتماما بحقوق الإنسان وحرياته.

هذه المرة، قالوا إن تلك مفاهيم نظرية ليس لها وجود فى الواقع، ويتجاهلها الحكام فى العالم كله، فسألتهم عما يمكن فعله حين ينتهك الحاكم حقوق الإنسان، فذكروا وسائل كثيرة، باستثناء ضغوط المجتمع المدنى والانتخابات التى تأتى بحاكم آخر، وهما من أكثر الوسائل التى كانت ترد لذهن سابقيهم! الأخطر من ذلك، قال أحد الطلاب إنه لا مانع عنده من «قتل مائة شخص أو حتى أكثر فى سبيل الباقين». ووافقه على رأيه عدد كبير لم تكن عندهم إجابة حين تساءلت زميلة لهم، قائلة: «ألا توجد وسائل أخرى لحماية الكل، دون التضحية بالبعض؟»، كنت مصرة على أن يعطى الطلاب أنفسهم الفرصة للتفكير والحوار المتحضر مع زميلتهم فيما طرحته، فأذهلنى عجز أولئك المبدعين الشباب، بل عدم رغبتهم فى إيجاد بدائل. وبعد محاضرة عن الأيديولوجيات السياسية، سألنى طالب: «تحت أى أيديولوجيا تندرج الطائفة؟»، واستطرد، موضحا: «يعنى أين أضع الإسلاميين؟»، قلت: «أولا: الإسلاميون ليسوا طائفة، وإنما تيار سياسى»، نظر إلىَّ الطالب وكأن لسان حاله يقول إن هذه الأستاذة لا تفهم أصلا فى السياسة، ولم ينتظر «ثانيا»، حيث استأذن وانصرف!

وكل تلك الوقائع ذكَّرتنى بوقائع مماثلة فى الفصل الدراسى الماضى تحتاج لعرض خاص. ورغم أن تلك الوقائع فاجأتنى وآلمتنى، فإنك حين تتأمل دلالاتها تجدها مفهومة فى سياقها، فهى نتيجة متوقعة فى أجواء الإرهاب الفكرى الذى تمارسه بعض رموز النخبة الفكرية والإعلامية، والتى تردد باستمرار أفكار رؤية واحدة، ثم تصر على فرض تلك الرؤية وحدها، وتُخَوِّن كل من يختلف معها، ولو بقدر ضئيل للغاية. لكن بالله عليكم، أى أجواء تلك لتدريس علم السياسة الذى يقوم على التحليل النقدى، لا الرؤية الواحدة، مثلما يقوم على مفاهيم ذات تعريفات متفق عليها؟ غير أن السؤال الأكثر أهمية بكثير، بل الأكثر خطورة، هو كيف يمكن أن تبنى مجتمعا متحضرا، يؤمن بالديمقراطية والحريات، فى مناخ تبتذل فيه المفاهيم، وتُنزع الإنسانية من القلوب، بحيث لم تعد القضية هى الدفاع عن حقوق الإنسان، وإنما صارت مجرد الدفاع عن حقك أصلا فى أن تكون إنسانا.

SputnikNews