أخبار عاجلة

إنجى الحسينى تكتب: عوف «قصة قصيرة»

إنجى الحسينى تكتب: عوف «قصة قصيرة» إنجى الحسينى تكتب: عوف «قصة قصيرة»

في فترة شباب أبى عُيِّن بوظيفته بمنطقة الواسطى، وسكن بمنزل أنيق مكون من طابقين، يضم حديقة زرعتها أمى بجميع أنواع الخضروات واهتمت فيها بتربية الأرانب والطيور، وكان إخوتى معروفين بأنهم أولاد مجدى بك، الكل يعمل له ألف حساب، فقاضى البلد مركز يقدره البسطاء والأعيان من الأهالى والعائلات.

وكان يعمل لدى أبى خفير يدعى «عوف» يتصف بدمامة الخلقة وضخامة الجسم وغباء العقل، ولا يعرف وجهه الابتسام أبدا إلا حينما يرانى.

كانت أمى تستغرب شدة تعلقى بهذا العوف والذى ينفر منه الجميع، فعوف الدائم التجهم كان يتبدل حاله عندما يحملنى، حيث نشأت بينى وبينه صداقة غريبة من نوعها، بين رجل يتجنبه الجميع وبين طفلة صهباء وناصعة البياض وفى الثلاثة من عمرها، وبحكم الصداقة شاركت عوف الطعام واللعب، وكثيرا ما كان يطاردنى وأصوات ضحكنا تثير العجب.

مرت السنون وحان رحيل أبى بعد أن أمضى فترة خدمته، وفشلت جهوده في مد تلك الفترة، وبكت أمى بحرارة كما لم تبكِ من قبل، وودعت كل شبر بالحديقة التي دأبت على رعايتها سنوات طويلة، وودعت معها أجمل أيام عمرها، وأطيب من تعرفت بهم بحياتها.

وحانت لحظة الافتراق عن عوف، كان صراخى موجعا وهم يشدوننى من بين ذراعيه، وعلا نحيب الرجل وابتل شاربه بدموعه، وتأثر المودعون لمنظره، فأخذوا يطيبون خاطره بكلمات لم يلتفت إليها، وظل يجرى وراء القطار وهو يلوح بمنديله وصفير القطار يغطى على صراخى.

بعد رحيل مدرس الفيزياء، وجدت أبى واقفا على عتبة غرفتى مهللا: نجوى، عوف هنا، نفسه يشوفك ويسلم عليكِ.

قلت وأنا أتساءل بحيرة: عوف مين؟، أنا مش فاكرة حاجة عن القصة دى خالص، أنا مش فاكرة غير الامتحان المصيرى اللى مستنينى.

لم أكن أدرى أن عوف واقف بالقرب من الباب في انتظار أن أسمح له بالدخول كى يرانى بعد كل تلك السنين الطويلة، وجاءنى صوت أبى وهو يهون عليه مواسيا، فشعرت بالخجل من نفسى، فوقفت أصيح: عوف، أوفه، يخرب بيت الفيزياء، ثم رسمت ابتسامة فرح وخرجت من غرفتى فوجدت رجلا عجوزا قبيح الوجه ويبدو عليه البؤس، تفحصته سريعا ومددت يدى وأنا أسلم عليه بقوة: وحشتنى يا عوف، ياااه سنين طويلة أووى.

فزادت حماسته وهو يقول: فاكرة كنتِ بتروحى معايا القهوة وتجعدى على حجرى وتشربى معايا الشاى باللبن، ومكنتيش بتخلى حد يشيلك غيرى

ضحكت بافتعال: إحنا كنا أصحاب.

جلس الرجل ومسح عينيه بطرف كميه وبصوت أجش: يعنى فاكرانى.

فقلت طبعا، وسردت عليه كل ما كنت أسمعه من أبى وأمى وأنا أنظر له بغرابة، وبعد تبادل الحكايات، قام عوف من مكانه وأخرج سلسلة ذهبية من جيبه وهو يقول: حوشت كتير علشان اشتريها، بس لازم ألبسها لك بنفسى.

فخطفت نظرة الموافقة من على وجه أبى، واقتربت من ذلك الغريب يلبسنى هديته وأنا أشعر بحيرة ثم أخرج دمية صغيرة متهالكة من جيبه قائلا: لعبتك.

وبصوت مبحوح: خليها معاك علشان تفتكرينى دايما.

فقال: حد ينسى ضناه.. فاحتضنته رغما عنى وأنا لا أدرى ما السبب الذي دفعنى لذلك، ولكن كل ما أدركه هو أننى لم أخلع تلك السلسلة قط عن عنقى، حتى يوم زفافيى؛ فقد كانت أثمن هدية حصلت عليها لرجل لا يعرف إلا الاخلاص.

المصرى اليوم