أخبار عاجلة

العلاقة «الحميمية» بين الفنان وجدران الزنازين

العلاقة «الحميمية» بين الفنان وجدران الزنازين العلاقة «الحميمية» بين الفنان وجدران الزنازين

اشترك لتصلك أهم الأخبار

تعرّض الفنان والناقد التشكيلى الكبير عزالدين نجيب للاعتقال ثلاث مرات.. وعندما قرّر الكتابة عن تلك التجارب الثلاث أسعفته الرسومات - بجانب الذاكرة - ليُعيد الحياة لكل تجربة، خاصة وقد تمكن - بمساعدة زملائه المعتقلين - من تهريب تلك الرسوم التى ضمّنها كتابه الصادر عن هيئة قصور الثقافة - عام 2014 بعنوان (رسوم الزنزانة)

الاعتقال الأول كان فى يناير72. وقبض عليه ضباط المباحث من مقر عمله فى المسافرخانة. وكان عائدًا من المعرض الدولى للكتاب بالقاهرة. وكعادة الضباط قال له كبير الحملة الموضوع بسيط (مجرد كلمتين حناخدهم وتمشى على طول) ثم أخذوه إلى منزله للتفتيش.. وكما فى روايات كافكا فإنّ الضابط الكبير لاحظ كتابًا عنوانه (المثلث الفيروزى) وعليه اسم عز فسأله: تقصد إيه بالمثلث الفيروزى؟ ابتلع الفنان الدهشة وقال: الكتاب فى الأدب مش فى السياسة.. ورغم أنّ الكتاب مجموعة قصصية تم اعتقال الكتاب مع مؤلفه ليكون ضمن التهم الموجّهة (للمتهم) فكان مثار سخرية د. جلال رجب المحامى الذى دافع عن عز وقال للقضاة وهو يمسك بالكتاب: هذا هو دليل الاتهام لموكلى. مجموعة قصص بعنوان المثلث الفيروزى. يا له من (عنوان دموى يحض على قلب نظام الحكم).

غلاف كتاب «رسوم الزنزانة»

لا يدّعى عزالدين نجيب - فى الكتاب – (مجموعة القصص ولا فى غيه البطولة) وأنه لم يشترك فى أى تنظيم سرى لذا سيطر عليه سؤال: لماذا الاعتقال؟ جاءته الإجابة عندما دخل عليه الرائد ثروت القداح (رئيس قسم مكافحة الشيوعية) الزنزانة وقال له (البعثة هنا أحسن ولاّ فى لندن أحسن؟) فنشطتْ الذاكرة لتسترجع وجه هذا الضابط الذى وصله خطاب من وزارة الثقافة للموافقة على سفر عز فى بعثة للندن بعد، أنْ رشحته منظمة اليونسكو لدراسة ترميم اللوحات. ساومه الضابط - كثمن للموافقة - على التعاون مع المباحث بكتابة التقارير عن زملائه.

قال له عزالدين نجيب (إنتو بعتوا البلد بتلاته ساغ.. ومش أنا اللى يبيع نفسه بتلات شهور فى لندن) استغل الضابط مظاهرات الطلاب ضد تراخى النظام فى مجابهة إسرائيل.. وتحرير سيناء، فأمر باعتقال عز انتقامًا منه على موقفه الذى لم يتوقعه. فى هذه الزيارة أوقعه عز فى فخ الاعتراف بما فعله.. وتـمّ ذلك أمام زملائه المُعتقلين.. وكان من بينهم الشاعر أحمد فؤاد نجم. دخل عز- مع بعض زملائه - فى إضراب عن الطعام.. وفى اليوم العاشر زاره والده ووالدته – بإيعاز من المباحث - للضغط عليه لفك الإضراب. طيّبَ عز خاطر والديه بكلمات رقيقة (كما هو العرف المصرى فى مثل تلك الحالة) ولكنه استمر فى الإضراب.. وفى اليوم الثانى عشر استدعاه مأمور السجن لمقابلة وكيل النيابة. ظلّ عز واقفـًا رغم حالة الإعياء التى كان عليها.. وبعد قليل دخل أحمد فؤاد نجم.. وقال للمأمور وهو يــُـشير إلى عز (إزاى سايبينه واقف وهوّ تعبان؟) ثم قال وهو يشير لوكيل النيابة: مين إنت سيادتك؟ انتفض وكيل النيابة وقال: أنا سيدك يا حيوان.

اندفع نجم نحو المكتب كأنه سينقض عليه وقال (شوف بقى يا أخينا مهما تكون إنت لا سيدى ولا سيد نفسك. إنت مجرد أداة للسلطة)، وعندما اشتد الحوار بينهما أمر (المُحقق) المأمور بقطع المياه عن المُضربين عن الطعام، أى أنه يحكم على عشرة معتقلين بالإعدام الفورى. ولكن قنبلته ارتدّتْ إليه عندما قال عز- كى يُوقع على محضر التحقيق - لكاتب الجلسة (اكتب. أنا أتهم السيد وكيل النيابة بأنه أمر مأمور السجن بإعدام عشرة سجناء سياسيين مُضربين عن الطعام، وذلك بمنع المياه عنهم فى اليوم الثانى عشر من الإضراب، بعد أنْ سبّهم وأهانهم بأقذع الشتائم، وهم تحت رحمته بلا حول ولا قوة، وعلى وشك الموت)، تكهرب الجو وعجزتْ يد الكاتب عن الاستمرار فى الكتابة.

سجن

واحتقن وجه المُحقق. وطلب المأمور من أحمد فؤاد نجم إقناع عز (بأنْ يعقل) فضحك نجم وقال للمحقق: (مالك يا باشا؟ أجيب لك كباية ميه؟ خايف من إيه؟ ما تخليك – لا مؤاخذة - شجاع وتسجل اللى إنت قلته، وأنا شاهد عليه. بس عمّال تقول لنا إنتو شوية عــــيال)، وبعد تدخل المأمور الذى وعد بتحديد موعد لجلسة المحاكمة، وكتابة حكاية الضابط ثروت القداح، وافق عز الدين نجيب على شطب حكاية قطع المياه، ولكنه اشترط على المُحقق الاعتذار لنجم وقد كان. ووفىّ المأمور بوعده، إذْ بعد يوميْن تم إبلاغ المُعتقلين بموعد جلسة المحاكمة، ففكوا الإضراب فى اليوم الرابع عشر. وحكمتْ المحكمة ببراءة الجميع.

الاعتقال الثانى كان فى يناير75 وكانت التهمة عضوية (جمعية كتاب الغد) وعضوية تنظيم (اليسار الجديد) فى هذه الحبسة كاد عز الدين نجيب أنْ يموت بسبب رفض إدارة السجن السماح له باستخدام أدويته الخاصة بالربو، وبسبب الطبيب الذى كتب على أورنيك العيادة (مُـتمارض) كان عز فى زنزانة منفردة فدقّ على جدارها فسمعه أحمد فؤاد نجم من الزنزانة المجاورة فصاح (يازملا فى كل الزنازين زميلنا هنا بيموت) فتمّ نقله لمستشفى سجن المزرعة.

والاعتقال الثالث كان فى فجر24 سبتمبر97 والتهمة تحريض الفلاحين على التظاهر ضد قانون العلاقة بين المالك والمستأجر للأراضى الزرعية. والدليل وجود منشورات بمكتب عز الدين نجيب الذى كان يشغل وظيفة مدير وكالة الغورى. وتتمثل عناصر العبثية الكافكاوية، أنّ عز فى تلك الفترة كان فى إجازة. ولأنّ عز لا يدعى البطولة، لذا اعترف فى كتابه أنّ الانضمام لمطالب الفلاحين شرف لا يدّعيه.

فظلّ طوال الاعتقال يتساءل عن سبب اعتقاله، خاصة بعد أنْ قال له ضابط المباحث عند الإفراج عنه (إنّ أمر الاعتقال كان غلطة يرجو أنْ يُسامحهم عليها. ولكنها ليست غلطتهم)، فسأله عز: فمن الذى أمر باعتقالى؟ فرد عليه الضابط: بناءً على جهة أخرى. فسأله عز: من هى تلك الجهة؟ فقال الضابط: إعفنى من الإجابة. بعد ذلك عرف الفنان الكبير عز الدين نجيب أنّ تلك الجهة هى المركز الثقافى الذى يعمل به. لذا كان عنوان الجزء الثالث (من يأمر باعتقال المثقفين؟) دالا على العبث الكافكاوى من جانب، وعلى مأساة المثقف الحقيقى صاحب المبادئ الرافض لدخول (حظيرة) وزارة الثقافة.

فى معظم صفحات الكتاب المُرصع بالرسوم التى رسمها الفنان عزالدين نجيب، فى تجارب الاعتقال الثلاث تبدو العلاقة الحميمية بين الفنان وجدران الزنازين، وهو ما عبّر عنه فى أكثر من صيغة منها (كنتُ أشعر وأنا أصوّر الزنازين بأبوابها المُصفحة وعنبر السجن بأبوابه العالية.. إننى أسيطر على فضاء الزنزانة وأوسع مساحتها الضيقة فلا تظل خانقة ومخيفة ومعادية. والقاسم المُـشترك بين التجارب الثلاث هو قدرة الإنسان على إزاحة جدران الزنازين عنه بسحر الفن وتحرر الروح).

المصرى اليوم