ذاكرة الكتب.. «نوبار باشا» يكشف المستور عن حكام أسرة محمد على

ذاكرة الكتب.. «نوبار باشا» يكشف المستور عن حكام أسرة محمد على ذاكرة الكتب.. «نوبار باشا» يكشف المستور عن حكام أسرة محمد على

اشترك لتصلك أهم الأخبار

ولد «نوبار يان» فى أزمير عام 1825 من عائلة عريقة ترجع أصولها إلى أعالى أرمينيا، ودرس فى جينيف ثم تولوز، وفى عام 1842 استدعاه خاله بوغوص بك الذى كان يشغل منصب ناظر التجارة والأمور الإفرنجية لوالى محمد على، وعمل نوبار سكرتيرًا فى مكتب خاله حتى وفاة بوغوص فى عام 1844، وبعدها انتقل ليصبح سكرتيرًا ومترجمًا لمحمد على، ثم التحق بخدمة إبراهيم باشا، الذى اصطحبه فى كل أسفاره حتى وفاته فى عام 1848 وتراجع دوره فى عهد الوالى محمد سعيد، ثم واصل الصعود فى عهد الخديو إسماعيل.

وتولى هذا الرجل الأرمنى المسيحى رئاسة الوزراء ثلاث مرات، الأولى فى عهد الخديو إسماعيل عام 1878 ثم فى عهد توفيق بين عامى 1884 وحتى 1888 وأخيرًا فى عهد عباس حلمى 1894- 1895 وتوفى فى عام 1899، وهناك شارع باسمه فى القاهرة، وآخر فى الإسكندرية، بالإضافة إلى قناة تحمل اسمه وهى ترعة «النوبارية» فى دلتا النيل.

كتب نوبار باشا مذكراته، وهى ثرية بالكثير من المعلومات والأحداث والأسرار على لسان رجل كان قريبا من بلاط الحكم لسنين طويلة، وعاصر حكام أسرة محمد على فى القرن التاسع عشر.

حكى نوبار باشا فى مذكرته كيف تولى محمد على حكم مصر بفرمان من السلطان عبدالمجيد، فى حق الحكم بالوراثة فى أسرته، ولكن يظل الحكم جزءًا من الإمبراطورية العثمانية وجميع المعاهدات السياسية والاقتصادية التى وقعها الباب العالى واجبة للتنفيذ فى مصر.

ورغم جدية الرجل فى طرحه للأحداث إلا أنه ذكر موقفا طريفا، حدث مع محمد على باشا، وبعض رسائله، التى كان يوجهها إلى قواده، ومنها تلك التى بعث بها إلى نجله وقائد قواده فى الإسكندرية، عثمان باشا، عقب وفاة مترجمه بوغوص بوسفيان، الذى كان لسان الوالى فى الاتصال بالعالم الخارجى، وقد علم أن عثمان لم يخرج فى وداعه إلى مثواه الأخير، وبعد أن وصفه بنجلى المبجل جدًا المحظوظ جدًا، قال له إنك غبى وحمار، كيف لا تصطحب أنت وحاميتك وجنودك الرجل، الذى رباك وأخلص لك إلى مثواه الأخير، وأمره بعد تحذيره من عصيانه باستخراج الجثمان وإعادة دفنه مرة أخرى فى جنازة عسكرية كبيرة.

وتشير المذكرات إلى قوة شخصية محمد على، فلكى يؤمن طريق التجارة من الهند لإنجلترا عبر مصر، لم يحتج سوى أن يجعل البدو مسؤولين عن كل شىء يحدث فى الأراضى، التى يتحركون فى صحرائها، فكانت البضائع تصل دون أن تعبث بها يد واحدة.

ولم يلجأ محمد على فى بداية تأسيس خدمة توصيل الطرود والبريد والبضائع سوى إلى أن يشنق ثلاثة من رؤساء القبائل على أحد أبواب القاهرة، وهو الباب المطل على الصحراء، وكان ذلك عقب حادث سرقة وحيد، وبعدها لم يشهد الطريق واقعة واحدة تخل بالأمن، حتى تم تأسيس خطوط السكة الحديد، بعد نصيحة نوبار لعباس بتأسيسها خلال عامى 1849 و1950. ولفت نوبار باشا إلى أن الحديث بدأ عن السكة الحديد وقناة السويس أواخر أيام محمد على.

يضيف نوبار مستطردًا أن الباشا الكبير «فقد عقله تمامًا» وصار وهو فى سن الشيخوخة يتخيّل نفسه وهو على رأس جيشه الجرار، يحارب على أبواب القسطنطينية، يعطى أوامر لضبّاط لم يعد أحد منهم على قيد الحياة.

فى أيامه الأخيرة كان محمّد على «يدرك الحالة التى هو عليها ويراقب نفسه، وما إن يشعر بأنه سوف يدخل فى نوبة هذيان وفقدان العقل إلا وقد كان يختلى بنفسه، فى عزلة تامة، محاولًا بكل قواه أن يستعيد تسلسل أفكاره»، وعندما بلغه خبر وفاة ابنه إبراهيم قال محمّد على: «كنت أعرف.. كان قاسيًا معى كما كان مع الجميع. لقد عاقبه الله وأماته».

خدم نوبار مع عباس وأحبه كثيرًا، كما تحسّر عليه يوم اغتياله طعنًا بالسكاكين على يد مجموعة من حرّاسه فى تموز 1854: «كُتم خبر الكارثة لمدة ثمانى وأربعين ساعة، نُقل خلالها جثمان عباس من بنها إلى قصره بالعباسية فى وضح النهار، بعد أن تم إجلاسه بثيابه الرسمية فى عربة تجرها أربعة خيول كما لو هو على قيد الحياة».

ذهبت الولاية من بعده إلى عمّه محمّد سعيد باشا، نجل محمّد على، الذى لا يُخفى نوبار عدم إعجابه به بتاتًا. يقول نوبار إنه ومع غياب عباس فقدت مصر طبيعتها الشرقية، وتغلغل الأجانب فى أروقة حكمها، وصاروا يتحكمون بالوالى الجديد ضعيف الإرادة والشخصية، الذى حاول بشتى الطرق إرضاءهم.

صار القناصل هم حكام مصر الحقيقيون، لدرجة أن أحدهم تجرأ على زيارة قصر الوالى من دون موعد وهو فى ثياب النوم. كان سعيد وقبل وصوله إلى الحكم يَعمل قائدًا لأسطول أبيه البحرى، «مع أنه كان يعانى من دوار البحر»، وقد دخل التاريخ لقُربه من رجل الأعمال الفرنسى فيرديناند دى ليسيبس، الذى أعطاه سعيد امتياز شركة قناة السويس، والتى كلفت 200 مليون فرنك فرنسى.

عارض نوبار المشروع من يومه الأول، كما عارض أعمال السخرة التى حُفرت عن طريقها القناة، ومات خلالها الآلاف من المصريين. يقول نوبار: «كان من شأن القناة أن ترفع من الأهمية التجارية لأراضى مصر، ولكن ستؤدى إلى القضاء عليها سياسيًا». أسرف سعيد لكى يتمكن من مجاراة الملوك والنبلاء، وأغدق بالهدايا والامتيازات على الأجانب فى القاهرة، الذى بلغ عددهم 150 ألفًا، وركّب دينًا كبيرًا على نفسه وصل إلى 88 مليون فرنك، تم اقتراضه بفائدة فاحشة من المصارف الأوروبية.

ورغم كرهه لسعيد إلا أنه يعترف بإنجازاته، ومنها سماحه للفلاح بأن يمتلك الأرض التى كان يزرعها «حتى لو كانت ملكًا للحكومة»، كما قام سعيد بتعيين شقيق نوبار حاكمًا على السودان، ليكون أول حاكم مسيحى على بلد عربى، بالرغم من معارضة بعض المحيطين به، الذين وصفوا نوبار وشقيقه بالكفار والملحدين. وأخيرًا عيّن الوالى نوبار مديرًا لسكك الحديد سنة 1857، التى كانت تدار فعليًا من قبل شخص أجنبى يُدعى المستر غرين، شقيق قنصل بريطانيا العام فى مصر. وعندما طلب هذا الأخير الاستقالة، كافأه سعيد بعشرة آلاف جنيه إسترلينى دون التفكير بمدى تأثير ذلك على الموظفين المصريين «الذين عملوا طوال حياتهم بمرتب ضئيل، وماتوا وهم فى الخدمة، أو أخرجوا على المعاش لينالوا مبلغًا تافهًا حقيرًا».

ويضيف نوبار أن جنون سعيد أوصله إلى جلسات تحضير الأرواح، حيث كان يستحضر روح أبيه فى كل ليلة ليتناقش معه فى أمور الدولة المصرية، كما قام بتعيين قرصان على رأس البحرية المصرى يدعى حافظ باشا. وفى ختام عهده وقبل وفاته سنة 1863، وقف سعيد أمام نوبار باشا وبكى بحرقة كما بكى إبراهيم باشا من قبله قائلًا: «لقد خربت مصر.. خربتها تمامًا. ماذا سيقولون عنّى؟».

انتقل بعدها نوبار إلى خدمة الوالى الجديد إسماعيل، نجل إبراهيم وحفيد محمّد على، الذى وبحسب صاحب المذكّرات، «وجد مصر صغيرة جدًا عليه»، فأراد التوسع نحو سوريا التى كان قد حكمها أبوه لمدة تسع سنوات ما بين 1831-1840. ولكنه أقلع عن هذا المشروع لأن شعوبها كانت تُعد «شعوبًا مثيرة للشغب، وتتكون من أعراق متعددة، وهى بعيدة تمامًا فى تكوينها عن الشعب المصرى، السهل فى إدارته».

وتمضى مذكرات نوبار باشا إلى أن تنتهى عام 1878، عند عزل إسماعيل عن الحكم ووصول توفيق إلى السلطة، الذى قام بتعيين نوبار رئيسًا للوزراء مرة ثانية سنة 1884. لا نعرف سبب عدم دخول نوبار فى هذه الحقبة: هل لأنه كان ما يزال نشطًا سياسيًا عند تدوين المذكرات عام 1890، ويطمح بالعودة إلى السلطة (الذى تحقق بالفعل عام 1894). أما أن حالته الصحية لم تعد تسمح بالكتابة؟ هذه الأسئلة تبقى رهن التاريخ، والثابت الوحيد أنه وفيما كتب ترك نوبار باشا وثيقة بالغة الأهمية، نالت مكانتها فى المكتبة العربية، ومازالت تعاد طباعتها حتى الآن.

المصرى اليوم