أخبار عاجلة

وجيه أحمد إبراهيم يكتب: بعد فوات الأوان (قصة)

وجيه أحمد إبراهيم يكتب: بعد فوات الأوان (قصة) وجيه أحمد إبراهيم يكتب: بعد فوات الأوان (قصة)

اشترك لتصلك أهم الأخبار

شعرت بهزة المحمول فى جيبى معلنة وصول رسالة، كنت قد وضعته على الصامت وأنا فى داخل معرض الفنان بيكاسو فى مدينة مارتينى بسويسرا.. فتحت الرسالة القادمة من أعز أصدقائى فى الإسكندرية.. «البقية فى حياتك.. عم سليمان توفى فجر اليوم».

شعرت أن ذكرى مهمة فى حياتى قد ضاعت للأبد.. لا أعرف كيف خرجت من المعرض.. بعد أن امتلأت عيناى بالدموع.

عم سليمان كان حارس العمارة التى تمتلكها عائلة أول حب لى فى الإسكندرية قبل هجرتى لباريس.. كانت العمارة تقع مباشرة على شاطئ البحر فى منطقة سيدى بشر.. عرفته أو بمعنى أصح تعرّف هو علىّ ذات يوم.. كنت قد اعتدت أن أمرّ أكثر من مرة أمام العمارة مساء كل يوم عندما ينسحب حر النهار الشديد ليسمح لنسمة البحر أن تهب على شواطئ الإسكندرية حتى تلمحنى حبيبتى وتلحقنى لكى نسير سويا على شاطئ البحر.. وحدث يوما أننى مررت أكثر من مرة دون أن

تنزل.. يومها رأيت عم سليمان يعبر الطريق ويحينى وفى يده كوب شاى ويقول لى الست الصغيرة خرجت مع الهانم من شوية.

عم سليمان كان لا يقرأ ولا يكتب ولكن بفطرته شعر أننى أحب بكل جوانحى.. وأراد أن يخفف قلقى من نفسه.. ومنذ عصر ذلك اليوم.. أصبح الرجل الطيب عندما يلمحنى كل يوم يعبر الطريق وهو يحمل كوبا من الشاى الساخن لى.. لكى أشربه وأنا فى انتظار نزول حبيبتى.

على شاطئ سيدى بشر.. ولدت أحلامى لا أعرف متى بالضبط ولكن ذاكرتى مازالت تعى وبوضوح تلك النغمات الساحرة التى كانت تنبعث لحظة التقاء أمواج البحر والشاطئ.. على ذلك الشاطئ أحببنا بعضا وخططنا ورسمنا مستقبلنا سويا فى عاصمة النور، وهناك أمسكت يد حبيبتى لآخر مرة قبل ساعات من صعودى الطائرة فجر اليوم التالى متجها لباريس وأنا لا أملك سوى أحلامى.. قبل أن تغدر بنا الأيام وتفرقنا بكل قسوة..

وقبل هجرتى نهائيا، حرصت على توديع عم سليمان.. ولم أكن أعرف عندما استقللت الطائرة فجر أحد الأيام فى بداية السبعينيات من القرن الماضى أننى سوف لا أستطيع رؤية الإسكندرية مرة أخرى إلا بعد أكثر من عشرين عاما لتقديم واجب العزاء فى وفاة عم سليمان.

وخلال سنين غربتى الطويلة، فشلت فى استعادة ذلك الإحساس الجميل الذى كان يغمرنا ليلا ونحن نحلم سويا على شاطئ سيدى بشر. رغم ترددى الدائم على شاطئ «كان» و«نيس» المطلين على نفس البحر فى الجهة المقابلة... وعندما طالت غيبتى... اجتاحنى الحنين وتذكرت كوب الشاى بتاع عم سليمان وحنيت للأيام الحلوة، فطلبت من أصدقائى فى الإسكندرية تجهيز باسبور لعم سليمان وأرسلت له تذاكر الطائرة للحضور لزيارتى فى باريس... وقتها لم يكن عم سليمان قد رأى أى مكان آخر سوى الإسكندرية، وأذكر أنه عندما انتظرته فى مطار شارل ديجول أول مرة، بكى بتأثر حينما أصررت على حمل حقيبته..

وفى آخر زيارة له لاحظت أنه على عكس عادته حينما يأتى لزيارتى.. كان شاردا باستمرار.. ويجلس وحيدا فى حديقة المنزل.. حاولت أن أخفف عنه بكل الطرق.. كنت أجهز له الشاى الثقيل الذى يحبه.. وأحضر له السجائر التى يحبها... دون جدوى.. ظل شاردا.. وحينما سألته عما به.. اكتفى بأن قال لى: العمر بيجرى يا ولدى ولا حيلة لنا به.. ولم أكن أدرى وأنا أودعه فى مطار باريس أنها آخر مره أراه فيها.

وأنا فى الطائرة التى أقلتنى من جنيف للقاهرة لتقديم واجب العزاء فى عم سليمان كنت مستغربًا من تصاريف القدر. كان حلم حياتى زمان على شواطئ الإسكندرية أن أعبر البحر لكى أعيش فى باريس.. وخلال سنوات طويلة منذ أن وطئت قدماى باريس أول مرة وأنا أحلم فقط بأن أعود يوما لزيارة الإسكندرية.. وأن أعود لركوب ترام الرمل أبو دورين.. وأن أسمع هدير البحر على شاطئ سيدى بشر، وأن أشم رائحة يود البحر ليلا بجوار بئر مسعود.. وأن أتناول ساندوتشات الطعمية الساخنة فى المساء بعد أن أشاهد فيلما فى سينما فلوريدا أمام نادى السيارات كعادتى أنا والأصدقاء، وأن أنزل فى غرفة على البحر فى فندق سيشيل بمحطة الرمل، ذلك الفندق الذى كنت وقتها أرى فيه المشاهير من الفنانين والسياسيين الذين يزورون الإسكندرية.

وها أنا أعود للإسكندرية بعد غياب سنين طويلة ولكن لتقديم واجب العزاء!.

بعد عودتى من تقديم العزاء، صعدت لغرفتى المطلة على البحر فى فندق سيشيل.. وقفت فى الشرفة وتطلعت بشوق عشرين عامًا لبحر الإسكندرية وأغمضت عينى مستنشقا بعمق رائحة اليود التى طالما اشتقت إليها. وخلال إقامتى القصيرة لم أجد شيئا من ذكرياتى على حاله.. هُدم منزل أول حب لى وشُيدت مكانه ناطحة سحاب.. كما هدمت أيضا سينما فلوريدا وشيدت عمارة مكانها.

حزنت عندما حاولت أن أجد مكانا فى ترام الرمل فلم أجد مكانا.. شعرت بالجوع، اشتريت ساندوتش طعمية، حاولت أن ألتهمه، فلم يكن بنفس مذاق زمان الذى تعودت عليه.. ذهبت ليلا للجلوس على شاطئ سيدى بشر مثل زمان فلم أجد الكبائن التى كانت تميزه. وأنا أتطلع إلى البحر فى الظلام خُيل لى أن الذكريات تتلاطم مع كل موجة تقترب من الشاطئ..

ورويدا رويدا بدأت أشعر أن الميعاد قد فات.. وأننى سافرت وعدت كموجة بعد فوات الأوان.

المصرى اليوم