أخبار عاجلة

"ستموت في العشرين".. حكاية كهنوتية تعطّل الزمن وتصادر المستقبل

محمد بنعزيز

الثلاثاء 02 يونيو 2020 - 00:15

مشهد البداية يُنذر، في مُقدمته موت وفي خلفيته امرأة تحضن رضيعا تتْبع رجلا لا يسير بجانبها في ديكور صحراوي ترابي أحادي اللون يريح العين ويخيف العقل. عجوز مكحل العينين يبصق في يده ويضع بصاقه في فم الرضيع والأم والأب راضيان. لقد حصلت البركة؛ بركة القديس في بصاقه وسيعطيه لمن يرغب، وذلك في فيلم "ستموت في العشرين" (2019) للمخرج السوداني أمجد أبو العلاء.

هذا مطلع سينمائي مذهل لحكاية كهنوتية، مذهل لأن فيه أولا تمهيدا سرديا فجائعيا بلغة سينمائية، وثانيا فيه لغة تولد المعنى؛ إذ يجري زحام لنيل ذاك البصاق بانشراح. هذه هي حقيقة المشهد عاريا بلا صباغة لاهوتية.

62fe0a20ac.jpg

فجأة ينهار المجذوب في رقم معين، ويُفسر ذلك بأنه صوْغ شكل المستقبل. حكاية كهنوتية لأنها تستبق Flashforward ما سيقع بقفزة في المستقبل، وهذا نقيض سرد الفلاش باك.

يَعْرف الكاهن شكل المستقبل ويلقيه في وجه امرأة حديدية تتقدم بطفل سيموت قريبا... قُضِي الأمر، لكن للتجربة الإنسانية آفاقا أرحب تدمر اليقين القدري المطلق.

حكاية ذات أفق أسود أساسها نبوءة نهاية العالم بالنسبة للطفل واسمه المزمل (أداء مصطفى شحاتة)، ومن هنا نتابع رحلة في الزمن تظهر فيها ردود فعل مختلفة:

أم تحضُن ابنها الذي سيموت قريبا، أب جبان، وجيران حزانى بسبب ما لمْ يقع بعد. يكشف تفاعل سكان القرية مع النبوءة معرفة السيناريست العميقة بأنثروبولوجيا المجتمع السوداني، هناك تصديق مطلق لأن أي تشكيك سيدمر سلطة الولي التي تظلل الناس بالأمان والعبودية والذل الطوعي... وذلك في محيط تديّن أفريقي يخترق الصحراء الكبرى من الخرطوم شرقا حتى داكار غربا. تديّن تديره زوايا عدة أقواها الزاوية التيجانية.

النسيج الزمني للفيلم

كيف يعيش المزمل سريان الزمان؟ ما هو الزمن بالنسبة إليه؟

773b2160c8.jpg

الزمن عدو مميت. إنه مِقصلة إعدام، وهكذا فالنظرة للزمن تصير أسلوبا وتقنية للسرد، فالعدّاد عُقرب يقترب من روحه، وهذا ما يعطل كل فعل إيجابي.

يرفض الشاب التعلم، والسبب "ما فائدة التعلم والعمر قصير؟". حين ذهب إلى الكتّاب ليتعلم وجد الأطفال يرتلون "ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر"، جلس ورتل بعد فقيه منهجه الوحيد هو الحفظ والاستظهار.

لا مكان للأسئلة

يتقدم الإخراج كبحث بصري لعرْض لقطات ذات طاقة سردية كثيفة. تحْسب الأمّ الأميّة الزمن، ترسم خطوطا سوداء بالفحم لعدّ السنين، نحسبُ معها. الخطر يقترب، وكلما مر عام تمت إضافة خط أسود على الجدار. هذه هي طريقة المخرج أولا لجعل الزمن مرئيا للمتفرج، وثانيا لتغطية الثغرة الزمنية (القطع-ellipse). في السيناريوهات الكسولة يكتبون وبعد سبع سنين... تحسب الأم من جديد، تشك في الحساب ولا تشك في كلام الكاهن.

سيرة شخص يغطي الغابة

يُمكّن التتابع ووضوحُ العلاقة بين المشاهد من خلق أثر تعبيري. فهناك تعارضات زمنية تغذي الدلالة، يتزامن عرس الحبيبة مع تجهيز الكفن، تجري المشاهد الأكثر تأثيرا في الليل في حكاية كهنوتية تصادر المستقبل وتعطل الزمن بين لحظة الميلاد ولحظة الموت المفترضة.

4309880779.jpg

يعرضُ الفيلم أنثروبولوجيا الموت المبنية على أحاسيس الخوف والفقدان في بيئة تقدس الموت. كل حكاية بدون عمق سوسيولوجي مجرد شجرة بلاستيكية لا جذور لها. يحكي الفيلم سيرة شخص (شجرة)، وعلى المتفرج أن يكتشف وضع الغابة (المجتمع) من خلال سيرة تلك الشجرة، هنا لا جدوى من التعليم، لا جدوى من الكدح، لا جدوى من الحب... يكفي انتظار الموت. وقد استبطن البطل مشروع موته حتى إن قلقه صار: كيف سيموت؟

يتغذى التلقي الدرامي مِن خوفِ المتفرج على ولده من نبوءة مشابهة. فالنبوءات الشريرة لم تظهر في السودان، بل هي قديمة لأن "الفكر الأسطوري يشكل جانبا من الخارطة المعرفية لكل فرد منا، فكر يدفع الناس إلى تَمثل العالم على أساس وجود قوة خارقة تقرّر مصيرهم مسبقا". (علم الاجتماع الديني الإشكالات والسياقات. سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي. ترجمة عز الدين عناية هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث كلمة الطبعة الأولى 2011 ص83)، وأشهَر التراجيديات اليونانية مبنية على نبوءات معبد دلف، وقد كانت رؤيا يوسف نبوءة فلاحية زمنية تغطي 15 عاما.

باستثمار هذا التراث السردي نجح الفيلم، لأن نسقه العام مستنبط من اللاوعي الجمعي. ويتحقق ذلك بالتركيز على قصة تجري في بيئة مألوفة للمتفرج لكن تخترقها مساحات من الانحرافات والمفاجآت. ما هي المفاجآت في "ستموت في العشرين"؟

المفاجأة الأولى تجري في النسق الأسطوري نفسه، فلربح الوقت تقصد الأمّ كاهنا منافسا، "توسع الدائرة" وتقصد سبعة قِبب لطلب الشفاعة من ولي آخر لإبطال النبوءة المشؤومة. ترشي الأم الولي المنافس بقِربان عبارة عن أرنب أبيض لعلها تحصل على زمن إضافي لابنها.

8362f2aa28.jpg

لكن حركة صغيرة تفضح، فالولي الجديد يرش المزّمل بالماء المبارك مع لمسة زائدة فاجرة. هكذا نسف المخرج هذا النسق.

تقع المفاجأة الثانية حين تعرّف المزمل على شخص سافر إلى كل بلاد العالم، عرف الخواجات وعاد ليستقر في القرية، شخص ليس كاهنا لذا فهو ليس واثقا من شيء، كل تركيزه على زمنه الآني... إنه "عم سلمان" الذي يشبه مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. ما وجه التشابه مع مصطفى سعيد؟

شعاره خمر ونسوان وكتب وأفلام. شخص يسكن في بيت له نوافذ كثيرة يدخل منها الضوء، يحيط نفسه بالمتع ويشغل نفسه بالفن ليوسع دائرة حياته.

شاهد المزمل أفلاما فعاد إلى القرية محمّلا بأسئلة دقيقة، مثلا: كيف يتوب من لم يعشق الدنيا أصلا؟ كيف يتوب من لم يرتكب خطيئة بعد؟

لأول مرة يسمع المزمل الاسئلة، وهو الذي تعود على الأجوبة المحفوظة. يُعلمه عم سلمان الحساب رمز العقلانية، يبين له أن الحفظ هو نقيض الفهم، يعري أمامه واقعه بلغة بسيطة تشتبك مع حياته اليومية.

كانت الأسئلة لحظة مضيئة في حياة المزّمل، بفضل الأفلام تحسنت علاقته بحبيبته، وهي آخر خيط يربطه بالقرية. رأى المزمل الحب فقرر أن يعيش في الوقت بدل الضائع، قرر الاستمتاع... السينما ضد الموت.

حين ظهر العم سليمان انفتح فيلم "ستموت في العشرين" في ثلثه الثالث على عوالم جديدة، تخلص المزمل من نظرته التصالحية مع واقعه. وقع التحول في روح البطل حين ماتت تمثلاته عن نفسه، بينما هو حي، حينها جرى تاركا الزمن الميت خلفه، جرى لعله يستعيد الزمن الضائع.

هسبريس