عن أخطار تطهير

عن أخطار تطهير مصر عن أخطار تطهير

يتساءل البعض عما إذا كانت تسير فى اتجاه دولة فاشلة.. أو فاشية. ليس بالضرورة. لكنها بالقطع تسير فى سبيل الدولة المعزولة، وربما التطهيرية. فالعزلة التى عاشتها مصر منذ ستة عقود أدت إلى بلد ليس فقط منعزلا، إنما معزول تماما عن ركب الحضارة المعاصرة. لأن فى ظل الزعيق الإعلامى العصبى تبدو عمليات «التطهير» الجارية حاليا كحرب مع معظم العالم المعاصر، داخليا وخارجيا: ضد عدو خارجى وآخر داخلى تعينهم الدولة.

هذه الأحوال عرفتها مصر من قبل فى إطار حقبه الستينيات. كان الهدف آنذاك هو تثبيت وتكريس الدولة وسيادتها، آما الآن فصار الشعار «إنقاذ الدولة» وهيبتها، والإيحاء للناس بأن إنقاذ تلك الدولة متعلق ومرتبط جذريا بإنقاذ حياة الفرد وحقه فى حياة كريمة، رغم أن كل الأدلة تشير إلى أن تلك الدولة لم تعمل يوما فى هذا الاتجاه- فإذا كانت هناك أسباب موضوعية لقيام الشعب بانتفاضة يناير 2011، فربما من أههما كان الإحساس العام بالإهانة الذى سيطر على قطاع كبير من الـ«شعب». لكن «الكداب نساى».

مع ذلك هناك تحالف، ربما يكون رصينا، بين «الشعب» والنسخة الميرى الوطنية المتطرفة للدولة وإعلامها، المهدد للشعب دائماً بأخطار الداخل والخارج. فنحن نعيش فى مجتمع «قطاع عام»، تم تأميمه فى الماضى، ليس فقط من حيث الشركات الرأسمالية، إنما أساسا من حيث الأفكار والسياسة، التى نعيش حتى الآن عملية تأميم أحزابها وتياراتها لكى تخدم «هيبة الدولة».

ما النتيجة فى النهاية؟ النتيجة أننا نتعامل مع كيان- وفى النهاية إنسان- مصرى «عميل»، ليس بمعنى أنه جاسوس داخلى أو خارجى- رغم الاتهامات المعتادة فى هذا الاتجاه والتى تصيب قدرا مذهلا من المصريين- لكنه متسول نحو الدولة، التى بدورها تتهم الإنسان المستقل فكريا بأنه عميل، يساعد العدو الداخلى أو الخارجى.. وعندما تقرر الدولة ذلك ينصاع خلفها الجموع: لأن «إذا فاتك الميرى فاتمرغ فى ترابه». وإن قالت لك الدولة حارب الآخر، فربما يبدو ذلك منطقيا ومقنعا. فأنت لا ترى ماذا يرى العالم فيك، لكن الإنسان المصرى يعيش جزءا كبيرا جدا من حياته فى محاولة إرضاء للدولة (ومن يشك فى ذلك فعليه زيارة أقرب مصلحة حكومية حالا).

لا أحد يعرف طبيعة المسار الذى نسير فيه، ناهيك عن غايته النهائية. لكن من الواضح أن من ضمن ما يحدث حاليا هو نوع من التطهير المجتمعى، فى محاولة للم الشمل والوئام التى تأتى على حساب فصيل عادة ما اعتقد البعض أنه أغلبية فى هذا البلد لكنه صار فى لحظة منبوذا.. جماعة معينة «اكتشف» معظم المجتمع أنها لوثت البلد بقذارة وغرور أفكارها المستوحاة من قراءات خاصة-ساذجة فكريا وفاشلة عمليا- للنص الدينى، ربما نبذت لأن لعنة الله تنزل بالذات على المجتمعات التى تحكمها تلك الفكرة المغرورة التى تلغى العقل الذى توج الله به الإنسان (انظر أفغاستان والصومال، السودان المقسم الخ...).

ربما إن جماعة الإخوان يجب فعلاً أن تختفى عن المشهد المصرى، فعليا وفكريا، على الأقل فى صورتها الحالية.. أما إذا كان لها أى أمل فى الاستمرار كفصيل سياسى، فيجب عليها إعادة النظر فى مقوماتها وأهدافها جذريا، وذلك ينطبق على كل الجماعات ذات المرجعية الدينية، فهذه المرجعية لا يمكن فرضها، ولا حتى طرحها، فى المجال العام بالطريقة التى يرمى إليها دعاة الإسلام السياسى، فهذا المجال يجب ألا يقبل إلا حجة المنطق والأدلة العملية ولا يمكن أن يدخل فيه الفقه واللاهوت، إذا كان من المطلوب أن يكون فعالا فى تطور حياة الناس بالمعنى الذى عرفه العالم المعاصر.

إن التمسك والتشبث بالمطلق جزء من سياق مجتمعى يعشق هذا المطلق ومن ثم لا يقبل الاختلاف بسهولة، لذلك كان من الطبيعى أن تجد سلعة المطلق سوقاً هائلة ومربحة فى المجال العام اللا عقلانى السائد فى مصر حاليا، كذلك فإن مثل هذا المجال العنيف فكريا، والذى لا يقبل النقاش النقدى، يعمل على إزالة الانشقاقات والشروخ والشد والجذب المقلق داخل المجتمع عن طريق عملية «تطهير».. وهذه عملية مخيفة. يتخيل من خلالها معظم ذلك المجتمع أنه يتخلص من حالة الفوضى والتوتر، من خلال التضحية الدموية بفصيل معين.. دون أن يعالج الأسباب الأساسية فى جذر المأساة.

SputnikNews